كتب - د. محمد الدمرداش العقالي كان التحدِّي الأكبر أمام الخطاب الديني الإسلامي في الفترات القريبة الماضية هو مواجهة التيارات المناوئة للإسلام؛ ففي بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، وكان إلي جانبها نشاط استشراقي مكثف يهدف جزء منه إلي تشكيك المسلمين في دينهم، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم، وسيرة النبي، والمفاهيم والتشريعات الإسلامية، طفحت به كتب كثير من المستشرقين ودراساتهم، فانبري المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم وأقلامهم وأرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية، وبذلوا قصاري جهدهم في التصدي لتلك المواجهات العارمة، رغم محدودية إمكانياتهم قياساً بقدرات الغزاة الذين يستندون إلي ميزانيات ضخمة ، وهيمنة عسكرية سياسية، ومراكز أبحاث وتخطيط. وفي القرن الماضي، كانت هناك معركة أخري تنتظر دعاة الإسلام ولا تزال تدور رحاها، هي أشد شراسة من حملات التنصير وشبهات الاستشراق، وهي مجابهة الكيان الصهيوني والتنديد بجرائمه. وكان مقبولا بل مطلوباً أن يكون الخطاب الديني قوياً هادراً ليتناسب مع جسامة الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين. كان هذا هو شأن الخطاب الديني في مهامه الجلل في الفترات السابقة، ولكن المتتبع لهذا الخطاب في هذه الآونة لا سيما الخطاب السلفي في مصر كما بدا في خطب العيد، يهوله ما تضمنه هذا الخطاب من استخدام مفرط للغة التكفير أو في حده المتسامح التأثيم لكل من تراوده نفسه الآمرة بالسوء أن يصوت لمرشح في الانتخابات من غير الإسلاميين. ولا أري ضيرا في أن يدعو شخص لاختيار برنامج أو توجه حزبي معين يري أنه الأصلح لقيادة الدولة في الفترة المقبلة، ولكن أن يكون الخطاب تأثيما أو تكفيرا لمن يريد انتخاب فصيل سياسي أيا كان لونه من غير الإسلاميين، فتلك هي أكبر جناية علي الإسلام ذاته الذي هو في جوهره رسالة خير ورحمة للبشرية جمعاء. والمتابع للمشهد الإعلامي في مصر يعاين مظاهر الغلو في الخطاب الديني التي أفرزت آفات عديدة غذاها انتشار الفضائيات، وأظهرها: تحريف المفاهيم وغياب ضبط الألفاظ، ومن ذلك علي سبيل المثال جعل الليبرالي كافراً والعلماني علي إطلاقه ملحدا، وإنزال الأحكام الشرعية في غير محلها، والابتعاد عن مقاصد الدين الحقيقية وأهدافه، وإشغال العباد بحالة طقوسية فارغة تستنزف الجهود، وتصنع حالة من الإشباع الكاذب والشعور الزائف بأداء الواجب نحو الدين . الاستغراق في الجوانب الغيبية علي حساب العقل ومراعاة السنن الإلهية للطبيعة والحياة ، مما يعزَّز حالة التواكل والتكاسل، وانعدام البحث الموضوعي وغياب المعالجة الواقعية لمشكلات الحياة، وفتح المجال أمام أسواق الشعوذة والدجل التي تفرد لها الفضائيات بث سمومها وترهاتها بالساعات، وادعاء القدرة علي وصف مختلف العلاجات للأمراض الجسمية ، والمشكلات النفسية، والقضايا الاجتماعية . تشجيع التطرف والتشدد تجاه الآخر الخارجي و الداخلي، وإغفال مساحات الالتقاء والاشتراك، حتي بدت مصر مرتعاً لخطباء متمرسين في إزكاء الخلافات الموهومة، يتصدرون المشهد السياسي والديني ويحترفون إثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن، وقد منحتهم القنوات الفضائية أفضل الفرص لرفع عقيرتهم ونشر سمومهم في مختلف الأرجاء. ممارسة الإرهاب الفكري تجاه أي رأي مخالف واتهامه بالمروق والابتداع وصولا للكفر والزندقة، مما يوقف حركة العقل ويمنع الاجتهاد. إن هذه التحديات الداخلية توجب في المقام الأول علي عقلاء التيار الإسلامي في مصر وهم كثُر أن يأخذوا بيد الخطاب الديني لجميع أطياف الإسلام السياسي لا أن يوجهوا خطابهم واهتمامهم فحسب نحو تبصير جماهير الوطن بما يخدم مصلحتهم، وأن يصونوا ثورتنا من مردة الفلول وأبالسة نظام المخلوع الذين يتحينون الفرصة كخفافيش الظلام للوثوب علي كراسي البرلمان. ولاشك أن مهمة هؤلاء العقلاء من جميع الأطراف ستكون شاقة وستكتنفها صعوبات بالغة، لأن دعاة التشدد والغلو مسموعو الصوت يستثيرون عواطف العامة ومشاعرهم الدينية، وكلما غالي الناعق منهم في تشدده ظهر للعامة أنه من حماة العقيدة الأشداء، وهم لا يتورعون عن التشكيك في دين من يختلف معهم ولو في أدني التفاصيل. وليكن لهم في نبي الإنسانية ورسول الرحمة صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة في الدعوة علي بصيرة: فقد كانت أهم سمة لمنهجه صلي الله عليه وسلم في الدعوة إلي الله عزوجل، هي امتلاك البصيرة «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَي اللّهِ عَلَي بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين» والبصيرة من البصر والإبصار، فكما يحتاج الإنسان إلي حاسة البصر ليري الأشياء المادية في هذه الحياة، وليتمكن من السير في طرقها متلافياً الضياع والوقوع في الحفر والمزالق، فكذلك يحتاج إلي المعرفة والوعي لتقويم الآراء والأفكار، والتمييز بين مسالك الخير ومهاوي الشر والفساد. وتلك هي البصيرة. رزقنا الله عزوجل البصر والبصيرة، وكل عام ومصر وكل أهلها وترابها بخير وسلام