كان الدرس قاسياً علي العسكرية المصرية أن يرفع علم الاحتلال علي الضفة الشرقية لقناة السويس في 1967.. هي لم تكن حرب حيث دكت قوات العدو الإسرائيلي مواقع الجيش المصري دون أن تتحرك آلية واحدة من مكانها ودون أن يكون هناك إطلاق نار لطلقة واحدة ليقبع العلم الذي حول مياه القناة إلي اللون الأسود بوجوده علي جانبها ويلوث خيال الظل فيها. عندما كانت السنة 1964 وكانت مصر في أبهي صورها وعند بلوغه سن الشباب 22 عاماً وهو مقتبل عمر كل شاب، إلا أن حرب اليمن كانت بانتظاره التي عادت وحدات الصاعقة منها مع بزوغ شهر مايو 1967، تناقض كبير بين ما كانت فيه الوحدات من إنجاز في اليمن مع ما حدث من فشل لم يكن لهم يد فيه، حيث عاد بعدد محدود من اليمن واتجه إلي نمرة 6 بالإسماعيلية، وكانت أولي المفاجآت التي لاقاها أن يرفرف العلم الإسرائيلي علي ضفاف القناة. لمعرفة المزيد عن تلك الفترة قابلت روزاليوسف اللواء محمود خلف المدرس بأكاديمية ناصر العسكرية الذي عاش الانتصار بكل حلاوته ورأي الهزيمة ترتسم في عيون كل مصري، ليروي لنا كيف حدثت الفجوة بين الشعب والجيش، إثر الهزيمة التي تمت دون حرب علي أرض مصر لتأذن لإسرائيل بالاحتلال، ويحكي لنا المزيد من الأسرار. «قصة شعب مصر» تلك هي العبارة التي أوجز فيها «خلف» رؤيته للشعب في تلك الفترة، شعب مهزوم ومحبط، الجيش يمتلك معدات قديمة وعائد من حرب اليمن التي أنهكت قواه وهناك حالة من التقشف يعيشها الشعب في أحلك الظروف عله يجد مخرجاً لهذا الموقف الذي أدي إلي التماسك الوطني لديه وكانت تلك هي أول شرارة لكي يأذن الله للشعب بالنصر. ولعل أهم ما يلفت له خلف في تلك الفترة المهمة حاليا من تاريخ مصر الذي طالما أعاد تأريخه شعبه بمواقفه، أنه ليس كما يذكر الناس دائماً أن الشعب والجيش إيد واحدة، ولكن الأمر أبسط من ذلك وأدق بكثير، فليس هناك انفصال بين الشعب والجيش، فالجيش ليس موظفاً لدي الشعب بل إن الشعب هو الجيش، ويتكون من جموع الناس لأداء وظيفة طبيعية هي الحفاظ علي أرضه من خلال الجيش، لحماية السلام واتفاقياته وردع كل من يقترب من الوطن. هذا هو المفهوم عند الفرد، ليقوم الشعب بحماية نفسه وأرضه، ويعمل الجيش كما لو كانت الحرب غداً، ويستمد الجيش قوته من الشعب، ووظيفة الجيش هي الموت من أجل الحفاظ علي الأرض تتفق ونفس رغبة الشعب من أجل أرضهم، وهذا ما اتضح لدي الشعب من شعور بالوطنية عندما تقشف واتحد وتماسك خلال الاستنزاف حتي الحرب ولم تسجل مصر حادث سرقة من أي نوع خلال استعداد مصر لخوض الحرب. بانوراما سريعة يستعرضها «خلف» لخط النار الذي عاشه عندما قرر أن ينتحر إن لم يعد لمصر أرضها هو وجموع المصريين الذين تقشفوا في منازلهم وحرموا أنفسهم من أجل توفير لقمة العيش للجيش وكان ذلك جزءاً من التحدي العظيم الذي قدمه كل مصري فأمامه خط بارليف الذي تمت إقامته بما تم تفكيكه من خط سكة حديد القنطرة غرب غزة ليكون واحدة من وسائل صد أي هجوم ضده وإعطاء العدو القوة في التماسك، فالمهمة صعبة أمام المصريين وكلها مشاكل فهذا الخط هو العائق الوحيد والحقيقي أمام الجيش ليعبر، كان الجيش في حاجة أن يقوم بتمرير 52 عربة عسكرية لا يمكن إخفاؤها والعدو من الجانب الآخر يرصدنا بالعين المجردة علي مسافة 160 متراً، بل ونسمع بآذاننا ما يردده الجنود الإسرائيليون والضباط هناك من شتائم واستفزازات ووصفنا بأقبح الألفاظ بهدف قتل الروح المعنوية وإشاعة المزيد من الإحباط. ولكن لم يتوقف الجيش أو يقف مكتوف الأيدي، فكان لا بد من التعامل مع كل مشكلة علي حدة بأسلوب علمي وبالابتكار في ظل كشف العدو لكل التحركات بلا استثناء بإمكانيات ذاتية من خلال كل شخص في سلاحه، ولعل أولها كان التشويش علي وسائل الاتصال لديه، والتشويش علي أفكاره بخداعه بأنه ليس هناك استعداد لتحرك عسكري في ظل رصدهم لكل ما يحدث، بل كان أمامهم كل شيء طبيعي الناس في الشوارع والجنود يلعبون ألعاب الريف البسيطة ولعل أهم ما تم خداع العدو به بأن الأجهزة التابعة قامت بعمل إجازات لنزوح الجنود خلالها أمام مرأي ومسمع العدو، بل تم افتعال أعطال لقطارات السكة الحديد في أبو حماد والتل الكبير والإسماعيلية وإظهار أن هناك تكدساً في المواقف وسيارات الجيش التي جاءت لنقل الجنود لمواقع أخري مع الإبقاء علي عدد منهم في الشارع وكذلك استمرار الحال في المعسكرات دون تغيير بل إنه شبه إخلاء لها، تزامناً مع الإعلان عن سفر ضباط الجيش لأداء فريضة الحج وهو ما أتم خداع العدو». «مصر وحدها» هذا هو الحال الذي وصفه «خلف» ونحن في عام 1973 أنه في حالة الفشل معناه احتلال القاهرة وهو ما كان يتردد في ذهن كل منهم، وكان يفعل ما في وسعه لعدم تمكينهم من ذلك. حتي يوم 4 أكتوبر ليس هناك جديد، فالإجازات للمجندين تتوالي وافتعال الأزمات مستمر، والحياة طبيعية، مع إعلان نهاية مشروع، وفي صباح السبت كانت المفاجأة لكل مصري في الجيش وليس العدو، حيث كل شيء يتسم بالسكون وهناك مرور لقائد التشكيلات، وقام بتوزيع حقيبة ترفيه وكانت المفاجأة أن بها أعلاماً مصر ومعه الأمر بأن هناك حرباً مع دقات الساعة ال60 ، لنبدأ تنفيذ المخطط الذي تم ابتكاره، ويتم تدريسه في العالم حتي الآن عن خداع العسكرية المصرية لإسرائيل بإمكانات ذاتية في ظل عمل إسرائيلي ممنهج وقادر علي صد أي هجمات، بل لا يمكن الاقتراب منه لأن أقل ما فيه خطوط سكة حديد. كان خط بارليف هو الحد الفاصل بين النصر أو الانتحار وبذلك تكون مصر قد ماتت للأبد، لقد كان الأمر يحتاج لتحرك المشاة أولاً ثم يتم بعدها تركيب المعدات العسكرية للمرور من القناة، فكان الهدف الأول أن يتم تدمير الدبابات الإسرائيلية الواقعة علي مسافة 5 كيلو مترات بقيادة «برهام مندلر» قائد الجيش الثاني في إسرائيل، ونجحنا في اصطياد دباباتهم ليتم تدميرها بالكامل في موقعها، ومع قدوم الضربة الجوية مع المدفعية التي هالت الأرض فوق رأس إسرائيل وحولتهم إلي مجموعة من العجزة، ليصبح كل متر مربع كتلة من النيران حيث سلاح المدفعية الذي تزامن عمله مع الطيران ليضرب 175 دانة مع كل دقيقة في المتر المربع الواحد، ليكون إجمالي ما تم تدميره مع دقات السادسة من صباح 7 أكتوبر 200 دبابة. ويقول خلف: في نفس توقيت الحرب وقبل أن تبدأ ساعة الصفر أعلنت تل أبيب بعد أن تأكد لديها غياب المشهد العسكري المصري خلال مؤتمر صحفي لإلياهو زاعيرا رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية أنه لن تكون هناك حرب وأن الجيش المصري لا يوجد لديه أي قدرات في مواجهة القوة الإسرائيلية التي اتضح أنها قوة لا يمكن وصفها إلا بأقل من الهشة والوهمية، كان الأغرب أن يصل «الياهو» خلال المؤتمر رسالة من ثلاث كلمات «عبر المصريون القناة». مشهد رائع عاشه «خلف» مثله مثل كل مصري علي الجبهة أو يؤدي دوره، فالقوارب كانت كطائر داخل المياه، نصف مليون يرددون الله أكبر في مساحة لا تزيد علي ال170 كيلو متراً، والنيران حولنا تشتعل والشظايا أمامنا تتطاير كأنها حمام يحوم، ولا نفكر في شيء إلا الأرض أو الانتحار، ليسجل التاريخ أن الجميع كان في موقعه يؤدي المهمة المكلف بها، وأنه غير موجود في التاريخ العسكري أنه تم إسقاط إسرائيل في 6 ساعات غير في حربها مع مصر ليبدأ من جديد يري المياه في القناة بلونها الأزرق وأرض سيناء بشكلها اللامع بعد أن خيمت علي عينه الكآبة. ولعل أفضل المواقف الإنسانية أن تتم مكالمة هاتفية أثناء لقاء خلف بعد كل هذا الزمان بينه وبين الرجل الثاني في سلاح المظلات إبان حرب الكرامة اللواء زكي عبد الغني وكلمات كأنهما استمداها من روح أكتوبر ويتحدثان من داخل كتائبها. وتنقطع المكالمة ليعود اللواء خلف ليرسم طريق التنمية علي أرض سيناء ليؤكد أن تنميتها مرهونة باستقرار الأوضاع علي الحدود هناك، مما يشجع علي الاستثمار وليس بتحويل قاطنيها لدروع بشرية، في ظل وجود أعداء داخليين أخطر علي مصر من اليهود.