عبد الناصر لحظة خطاب التنحى هذه الليلة بالذات كانت هدفا للحملة المستمرة حتي الآن ضد الزعيم جمال عبدالناصر، الحملة التي بدأت تحت رعاية السادات ومباركته وإن تظاهر أحيانا أنه يضيق بها كما حدث عندما اتهم جلال الحمامصي الزعيم في ذمته المالية وكان ذلك بداية نهايته المهنية، حتي انه لم يحصل إلا علي أصوات معدودة في انتخابات النقيب التي تقدم إليها، جرت محاولة المس بالذمة والتي تم الرد عليها بالوثائق والحسم رغم أن عبدالناصر مستحيل المس به فيما يتعلق بأمرين المال والنساء. لكن ليلة التاسع من يونيو ظلت هدفا، ومما قيل إن خروج الجماهير الرافضة لتنحي عبدالناصر كان بتدبير من الاتحاد الاشتراكي، أقول وقد عاينت الخروج بنفسي من أحد حواري القاهرة القديمة التي كنت أسكنها وقتئذ، انها لحظة نادرة من لحظات انصهار الشعب المصري في بعضه البعض عندما يصبح الكل في واحد، بالضبط كما جري في تشييع الفريق عبدالمنعم رياض، وجنازة عبدالناصر الأسطورية، وحرب أكتوبر وثورة يناير. انه الكل في واحد. جري ذلك في ليلة التنحي. عندما أستعيد ما كان مني، من أيامي، خاصة تلك الاستثنائية سواء علي المستوي العام أو المستوي الشخصي. فإن ليلة تنحي الرئيس جمال عبدالناصر تبرز علي الفور كليلة فاصلة، علامة، أما مضمونها فلم يفحص بعد لأن ثمة من عمدوا إلي تشويهه قصدا بعد رحيل الزعيم وبعضهم مازال، ليس لأن عبدالناصر يشكل خطرا الآن ولكن لما يمثله من قيم ومبادئ، أهمها في رأيي القدرة علي التحدي والاحساس بالكرامة أما أهم المهم فهو انحيازه إلي الأغلبية من شعب مصر وهذا بيت القصيد، هنا موضوع يطول الحديث فيه، لكنني أتوقف عند تلك الليلة وعلاقتها بمدينة القاهرة. بدأت الحرب يوم الاثنين الخامس من يونيو صباحا، أذكر كل لحظة وكأنها أعيشها الآن، توالت البيانات باسقاط الطائرات، وما من بيانات عن تقدم قواتنا المسلحة عبر الحدود، بل كانت عبارات غامضة عن معارك عنيفة تجري علي امتداد الجبهة، بادرت محاولا الاتصال بأصدقائي في ذلك الوقت، الأبنودي، صبري حافظ، صلاح عيسي، اسماعيل العادلي (رحمه الله)، كان السؤال علي ألسنتنا جميعا: ماذا نفعل؟ كيف؟ أين؟ توالت الاقتراحات، بدءا من التبرع بالدم إلي التطوع، لكن أين نتطوع وكيف؟ كانت مصادر المعلومات في تلك الأيام وسائل الإعلام المصرية خاصة الإذاعة، والإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية، كان ارسالها ضعيفا ويبدو انها كانت تتعرض لعملية تشويش، لم يكن الأمر كما هو الآن حيث الحروب تبث مباشرة عبر الأقمار الصناعية، ها نحن بعد واحد وأربعين عاما نري لأول مرة فيلما عن الأسري المصريين الذين تم اغتيالهم، بل ان حوالي ثلاثين عاما كان لابد أن تمضي حتي أري بعض مشاهد الحرب فوق سيناء، شاهدتها في قناة فرنسية متخصصة في التاريخ، أما حربا الاستنزاف وأكتوبر فقد عشتهما بنفسي بعد أن تطوعت للعمل كمراسل حربي. مازلت أذكر تلك اللحظة، كنت عائدا إلي بيتنا في درب الطبلاوي حوالي الثانية والنصف، عند المدخل، أمام مسجد سيدي مرزوق سمعت أزيز طائرة، رفعت رأسي إلي السماء الصافية عميقة الزرقة، فوجئت طائرة من طراز ميراج علي جناحيها نجمة داود، علي خط واحد مع المئذنة، رأيت القمرة الزجاجية وكل التفاصيل، حتي خيل إلي أنني لمحت الطيار، أخذني الذهول، كيف نفذت هذه الطائرة إلي القاهرة؟ أين أسلحة الدفاع الجوي؟ أين الحشد العسكري الذي توالت علينا صوره طوال الأيام الماضية، أسرعت إلي المذياع، في التاسعة ليلا أصغيت إلي جملة وردت في تقرير بثته الإذاعة البريطانية، كان نصها »ويبدو ان المعارك تدور فوق الأراضي المصرية..«. كان ذلك يوم الاثنين ليلا، أذكر تفاصيل اليوم الأول تماما، بل أذكر تفاصيل الأيام السابقة منذ ان بدأ الحديث عن حشود عسكرية علي سوريا (فيما بعد أكد الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض وإليهما يرجع الفضل في إعادة البناء العسكري الذي قدر لي أن أشهد وأعايش تفاصيله حتي عبور الجيش المصري قناة السويس في معركة لم ينقل ما دار فيها حتي الآن إلي الناس، أكد لي كل منهما أنه لم تكن هناك أي حشود عسكرية علي الحدود السورية، وأكد ذلك الأستاذ محمد حسنين هيكل في ثلاثيته، حرب الثلاثين عاما، هنا أسئلة كثيرة عن موقف القيادة السورية وقتئذ ولماذا الادعاء بوجود حشود غير موجودة، ولماذا الحديث عن تورط مصر في حرب؟ أسئلة عديدة لاتزال بدون أجوبة، لعل التاريخ يكشف عنها يوما، لقد كان عبدالناصر متسقا مع نفسه كزعيم قومي، حشد الجيش لنجدة بلد عربي أكدت الأنباء والشواهد لديه أنه يتعرض لخطر، هكذا جري الحشد المعنوي، ثم العسكري، ثم توجيه الضربة الإسرائيلية التي كانت قاتلة ماديا إلي حين، لكنها لم تقتل الروح، وهذا ما تجلي ليلة التنحي. من الاثنين ليلا وحتي الخميس مساء لم تكن هناك أي شواهد علي علامات ايجابية، بل بدأنا نسمع عن وصول جنود شاردين من سيناء، كنا لا نفترق إلا ليلا، ولم تتعرض القاهرة لغارات في تلك الأيام، باستثناء عصر يوم الثلاثاء الذي رأيت فيه طائرة معادية علي ارتفاع شاهق وقذائف المدفعية تحاصرها، تذكرت يومئذ أقدم صورة في ذاكرتي عندما كانت سماء القاهرة مظلمة، تجوب فضاءها أشعات كاشفة تحاول محاصرة الطائرات المعادية لقصفها، هكذا كان الحال عام ثمانية وأربعين، هكذا كان أول ما تعرفت عليه من العدو سلاح الطيران الإسرائيلي ان في طفولتي أو في عشرينات عمري، لا أذكر الآن متي أعلن عن بيان سيلقيه الرئيس إلي الأمة، ان تعبير الأمة كان مقلقا، فهو يتضمن معني آخر، ان المضمون مصري، نذر كثيرة توحي بالتشاؤم، لكن كان كل منا لديه أمل خفي، ان الزعيم سيعلن مفاجأة كبري، مفاجأة من أرض المعركة طبعا. لم أشأ أن أصغي إلي البيان عبر المذياع، كنت أريد أن أري الزعيم، أن أدقق ملامحه، لم تكن أجهزة التليفزيون منتشرة في ذلك الوقت، وكان البث بالأبيض والأسود. اتجهت إلي شقة جارتنا التي كان لديها الجهاز الوحيد في البيت، في صالة البيت احتشد الجيران، رجال، نساء، أطفال، احتاطت هي للموقف فرفعت التليفزيون فوق الثلاجة (الايديال) التي كانت تتصدر الصالة، في الموعد المحدد أطل الزعيم جمال عبدالناصر، للوهلة الأولي أدركت الموقف، لم يكن هذا ناصر الذي عرفناه في عز المواقيت، لم يكن هو الذي رأيته فوق منبر الأزهر عام ستة وخمسين يلوح بقبضته ويعلن انه باق في القاهرة، وان أسرته باقية، وان أولاده في القاهرة وأنه سيقاتل مع الشعب، سيقاتل.. صورة مغايرة تماما، الألم، الأسي، الصوت المنكسر، نزل علينا صمت رهيب، إلي ان نطق بكلمة التنحي، بتحمله المسئولية، بقراره الاعتزال، هنا تبدل المناخ السائد تماما ودخلت المدينة كلها، ومصر كلها في حال آخر بتأثير انتفاضة الروح القديمة الكامنة وسرعان ما بدأت المدينة تغلي وتتحرك وتجري. درب الطبلاوي متفرع من شارع قصر الشوق، سد، أي لا يؤدي إلي حارة أخري، ولذلك أي غريب يدخله يتم اكتشافه بسهولة، كما أن سكانه يعرفون بعضهم البعض، بيتنا رقم أحد عشر، كان السكان يقفون في صالة الست عطيات لمشاهدة خطاب الرئيس جمال عبدالناصر، وما أن انتهي معلنا تنحيه عن السلطة واسناد المسئولية إلي زكريا محيي الدين وحتي وجدنا أنفسنا نندفع إلي الدرب، نفارق بيوتنا إلي الطريق، ليس لدي أي منا فكرة أو هدف محدد أو جزء من خطة أو خطة كاملة حتي، ما إن قطعت السلم متجها إلي الباب وصولا إلي الدرب حتي وجدت الجيران قد سبقونا، رجال، أطفال، نساء يرتدين الجلابيب، بعضهن حفاة الأقدام، سمعت إحداهن وكانت من فقراء الدرب تلطم صارخة. »سايبنا ورايح فين؟« لم يكن أحد يعرف إلي أن يتجه بالضبط؟ وهنا تبدأ العلاقة بين الجماعة المصرية القديمة التي يدخل في تكوينها عناصر شتي من أقدم العصور، هذه العناصر لا تشكل ولا تظهر إلا في اللحظات الاستثنائية من حياة الناس، سواء كانت ايجابية المضمون، أو سلبية، وهنا أيضا يتقدم المكان ليؤدي دوره، تتداخل المدينة والبشر، تبرز أهمية المركز، في مثل هذه الظروف وحتي القرن التاسع عشر كان المركز السياسي والروحي هو الجامع الأزهر، هكذا كان الناس يلجأون إليه عند اشتداد ظلم وقهر المماليك زمن السلطنة المستقلة حتي القرن السادس عشر أو خلال العصر العثماني عندما تحولت مصر إلي ولاية تابعة، وخلال سنوات الحملة الفرنسية، مع عصر الخديو اسماعيل انتقل مركز الحكم من القلعة إلي قصر عابدين وبدأت ملامح الدولة الحديثة التي تعتمد علي المؤسسات، مجلس الشيوخ، البرلمان، نظارة الوزارة، الوزارات، كل هذه المؤسسات تمركزت في المنطقة الواقعة علي شمال الماشي في شارع قصر العيني قادما من ميدان التحرير، وعندما بني مجمع التحرير في نهاية الخمسينيات كمقر للمصالح الحكومية تدعم المركز السياسي للعاصمة، غير ان المراكز في المدن لا تنشأ بوجود المباني المهمة فقط، فمبني وزارة الداخلية أو الحربية لا تقترب منهما الأحداث، إلي جانب مقار المؤسسات الرئيسية في الدولة تأتي الأحداث، خلال ثورة 9191، وعلي امتداد القرن العشرين كانت المظاهرات السياسية تتجه إلي ميدان الاسماعيلية (نسبة إلي الخديو اسماعيل) وفيما بعد أصبح ميدان التحرير حيث تدعم المركز بإجراء العرض العسكري في الثالث والعشرين من يوليو كل سنة قبل أن ينتقل إلي أرض مدينة نصر، وتوقف تماما بعد حادث المنصة الشهير، وان كانت المنصة لاتزال موجودة! في تلك الليلة بدت المدينة مثل الكائن الحي، الناس تتدفق من الحواري، من الشوارع، من درب الطبلاوي إلي شارع قصر الشوق، علي المدخل فوجئت بصديقي الأقرب الروائي يوسف القعيد، كان قادما من مستشفي غمرة العسكري الذي كان يؤدي الخدمة العسكرية فيه، في الظروف العادية يحتاج المرء إلي أكثر من نصف ساعة ليقطع هذه المسافة، كيف وصل يوسف خلال هذه الفترة القصيرة؟ كان يبدو متأثرا، منفعلا، مضينا معا إلي ميدان الحسين، إلي شارع الأزهر الذي غص بحشود بشرية كانت تتجه إلي ميدان العتبة، أثناء مشينا بدأت غارة جوية وامتلأت سماء المدينة بنيران القذائف المضادة للطائرات، قيل فيما بعد انها غارة مفتعلة، من افتعلها؟ لا ندري، هل هم رجال المشير عامر الذي تسبب في الهزيمة؟ ليس مهما بالنسبة لي معرفة من دبر الغارة أو إذا كانت غارة حقيقية، المهم الحالة التي كنا عليها والتي كان عليها الناس، لحظات استثنائية بحق، يتوحد فيها الجميع، أتذكر التعبير المصري القديم الذي ورد في كتاب (الخروج إلي النهار): عندما يصير الكل في واحد، هذه الليلة صار المصريون واحدا غير مقتسم، تحركوا بدافع واحد لم يحركه حزب ولا قوي سياسية، إنما حركة تكوين أعقد بكثير من ذلك، لقد كتبت أقلام كثيرة غامزة ملمزة خاصة الأقلام التي أطلقها أنور السادات بدهاء وخبث لتصفية وتشويه المرحلة الناصرية عن دور الاتحاد الاشتراكي في حشد الناس، أقول بعد أربعين عاما ان ما جري هذه الليلة يفوق قدرة أي حزب في العالم أو قوي سياسية، ما جري انتفاضة روح لشعب قديم رفضا للهزيمة، ومؤازرة للقائد الجريح الذي أدرك الناس بحسهم السليم التلقائي انه ضحية مثلهم، كانت تلك الهبة أول رد عملي علي الهزيمة العسكرية، الرفض وعدم الاستسلام. كلما تقدمنا إلي ميدان التحرير يصبح المشي صعبا، يقل عدد النساء فالليل يتقدم، وعندما تمكنا أخيرا من الوصول كان البشر أمواجا متلاطمة، في ميدان التحرير صب الجمع، وهنا بدأ يبرز مركز آخر، الاتجاه إلي منشية البكري حيث بيت القائد الجريح، بقينا (أنا ويوسف) في الشارع من مساء الخميس التاسع من يونيو وحتي صباح السبت، لم نكن وحدنا، بل معنا ملايين المتظاهرين من شتي فئات الشعب المصري، كانت المظاهرات تجوب الشوارع، والهتافات تتردد مطالبة الزعيم بالبقاء، كنا في مقتبل العمر، بداية العقد الثالث، وكانت الطاقة تكفي لمساندة الجهد البدني المبذول، أكثر من أربعين ساعة بدون نوم، نأوي أحيانا إلي مقهي ريش مقر المثقفين وقتئذ بفضل ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية. الثانية عشرة ظهرا ساد الشوارع، خاصة المركز (ميدان التحرير) حماس هائل بعد رسالة الزعيم إلي مجلس الشعب واستجابته إلي مطلبه بعدم التنحي، عاد يوسف إلي بيته واتجهت إلي منزل الشاعر الكبير الأبنودي، مقره في ميدان باب اللوق وقتئذ، كان البيت مفتوحا دائما للأصدقاء، قابلت عنده الزملاء الذين أعرفهم ومعظمهم كانوا رفقة المعتقل الذي خرجنا منه قبل شهرين فقط، والتقيت أيضا بالمناضل الفلسطيني مازن أبوغزالة لأول مرة وآخر مرة، كان صوته مبحوحا من الهتاف، وكان يردد »لا فائدة إلا في المواجهة«، لقد ذكرته في قصتي القصيرة »أوراق شاب عاش منذ ألف عام« والتي كتبتها من وحي تلك الساعات، ونفذ هو ما تحدث عنه، اختفي من القاهرة، وفي نوفمبر من نفس العام قرأنا خبر استشهاده في مرتفعات طوباس، بعد شهور قليلة بدأت عملي في الصحافة، سافر الأبنودي إلي السويس ليقيم ويكتب عملا أدبيا جميلا من أروع أشعار المقاومة »وجوه من الشط«. وعلي الجبهة جري عمل رهيب أشبه بالمعجزة، إعادة البناء العسكري، وبدء حرب الاستنزاف، كل هذه خطوات تالية لأول وثبة روحية كبري انطلقت من شرايين القاهرة التي هبت في المركز (ميدان التحرير) والذي قدر لي أن أشهد لحظات أخري حاسمة فيه وبعضها مؤثر جدا ما بين يونيو 7691 وما بين مارس 9691 جرت أمور كثيرة حاسمة. بعد أن أعلن الرئيس جمال عبدالناصر العودة إلي السلطة، والاستمرار في الامساك بمقاليد الأمور، في نفس اليوم اتخذ قرارا بتعيين الفريق أول محمد فوزي وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة، والفريق عبدالمنعم رياض رئيسا للأركان، كان كلاهما برتبة اللواء، ولم يكونا من المقربين من مجموعة المشير عبدالحكيم عامر، كان كلاهما جنديا محترفا، مهنيا، علي علم واسع وخبرة، وكان اختيارهما موفقا وسديدا إلي أبعد مدي لقد قدر لي فيما بعد أن أتعرف علي الفريق أول، البطل، العظيم، المثال الفذ علي العسكرية العربية، النزيه محمد فوزي، تعرفت عليه وتوثقت علاقتي به بعد خروجه من السجن الذي دفعه إليه الرئيس محمد أنور السادات بعد حركة الخامس عشر من مايو عام 1791، ان الصور تتوارد علي ذهني، وتتزاحم، لقد حضرت يوم الخميس الثالث عشر من مايو عام 1791 حفل تخرج دفعة جديدة من الكلية الفنية العسكرية، حضرتها بصفتين، الأولي انني محرر عسكري للأخبار، والثانية كان شقيقي اسماعيل بين الخريجين في هذا اليوم، وقفت عن كثب بصفتي الأولي من منصة الاحتفال، أرقب الفريق أول محمد فوزي وهو يقلد أول الدفعة وساما، لاحظت غياب الفريق محمد صادق رئيس الأركان، والتجهم والحزن علي وجه الفريق فوزي المشهور بصرامته وملامحه التي لم تعرف الابتسام، يشاء القدر أن أشهد آخر مرة يظهر فيها بصفته قائدا عاما، لقد اعتقل مساء اليوم نفسه ولهذا تفصيل يطول أمره، لكنه كان قد أعاد بناء القوات المسلحة المصرية في مهمة كانت تبدو مستحيلة بالقياس إلي حجم الهزيمة وآثارها، مازلت أذكر صباح الأحد الحادي عشر من يونيو، عندما قرأت عنوان الأهرام »إعادة البناء العسكري«.. رغم مرور أربعين عاما الآن، فمازلت أري العنوان وكأنه أمامي، بدا لي الأمر بعيدا، إعادة البناء العسكري؟ كيف؟ أي مرحلة تبدأ؟ كان حجم الهزيمة قد بدأ يظهر تدريجيا، لم تكن الحروب تدار من خلال البث المباشر كما هو الآن، رغم مرور أربعين عاما علي يونيو هذا العام فكيثر من الأمور لاتزال غامضة، سواء تلك المتعلقة بجرائم إسرائيل في سيناء، أو الأدوار الغامضة التي لعبها بعض الأشخاص المعزولين من مجموعة المشير وأخص منهم وزير الحربية شمس بدران، الذي مازال يعيش حتي الآن في لندن، ان أسرارا كثيرة لم تكشف بعد ولم تعرف بعد، وليت الذكري الأربعين تكون مناسبة لفحص هذه الهزيمة وما أدي إليها حتي نتفحص الأسباب. بدأ الفريق أول محمد فوزي، والفريق عبدالمنعم رياض الذي تولي رئاسة الأركان، وكبار القادة الذين كانوا مبعدين في مرحلة المشير عامر، قادة الجيش الذي لم تتح له الفرصة للاشتباك في قتال حقيقي، عمليا بدأت القوات المسلحة المصرية الرد بعد أيام من وقف اطلاق النار، في الثلاثين من يونيو أي بعد وقف اطلاق النار بثلاثة أسابيع، تقدم طابور مدرع إسرائيلي إلي شمال سيناء قاصدا الاستيلاء علي موقع اسمه رأس العش يليه مدينة بورفؤاد علي الضفة الشرقيةلسيناء، كانت هذه المساحة لم تحتل في يونيو وحتي تكتمل سيطرة إسرائيل علي شبه الجزيرة الضخمة تقدم هذا الطابور لاتمام الاحتلال، غير أن مجموعة صغيرة من مقاتلي الصاعقة يقودهم المقدم (وقتئذ) ابراهيم الرفاعي، تصدوا لهذه القوة المدرعة واشتبكوا معها ودمروها، كانت البيانات العسكرية تصدر مختصرة، موجزة، حذرة بعد بيانات يونيو، وطوال سنوات حرب الاستنزاف كانت البيانات تعد متحفظة إذا ما قورنت بما يتم علي أرض الواقع، كان البناء العسكري يتم خطوة، خطوة، وكان يتم من خلال الاشتباك، وكان الزعيم يتابع أدق أموره بنفسه، لقد أصبح الأمر يتعلق بروح مصر وسمعة العسكرية العربية كلها، كان التحدي رهيبا، غير أن الجهد المبذول والعزم كان أسطوريا، ويشاء قدري أن أبدأ عملي في الصحافة عام 9691، في بداية أخطر مراحل حرب الاستنزاف، طوال الفترة من يونيو 7691 إلي 9 مارس 9691، جري البناء العسكري موازيا للاشتباك عبر القناة، ومر ذلك بمراحل سأعود إليها، ولكن استيقظت مصر علي حدث مهول إذا استخدمنا طريقة المؤرخين القدامي في الوصف. ماذا جري؟ لقد أذيع بيان عسكري وبيان من الزعيم جمال عبدالناصر، ينعي إلي الأمة المصرية، إلي الأمة العربية، نبأ استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في الخط الأمامي من جبهة القتال، بالتحديد في منطقة الفردان المطلة علي مياه القناة مباشرة، لقد أتيح لي أن أزور موقع استشهاده عدة مرات فيما بعد، وسوف أعود لوصفه تفصيلا، لقد استشهد الرجل في أقصي نقطة متقدمة، في موضع يمكن رصد أي إنسان فيه لأن مواقع العدو كانت أعلي لسبب، وهو أن ناتج الحفر لقناة السويس كان يلقي شرقا وليس غربا، لذلك أصبح الجيش الإسرائيلي في مواضع حاكمة تمكنهم من كشف أي تحركات علي الضفة الغربية، كان القناصة نشيطين جدا، وإذا رصد أي هدف يتم قصفه بدقة، حققت القوات المسلحة المصرية المعادلة المستحيلة، إعادة البناء العسكري من خلال الاشتباك اليومي، في نفس الوقت كانت هناك فجوة، أو بتعبير آخر مسافة بين الشعب والقوات المسلحة، لم تكن حقيقة ما جري معروفة، لكن بالنسبة للشعب كانت المؤسسة العسكرية هي التي تتحمل المسئولية، لكن الموقف تبدل تماما صبيحة التاسع من مارس، لقد استشهد رئيس الأركان في المقدمة بين رجاله، وكان الخبر كفيلا بإلغاء تلك المسافة، كانت الصورة العامة للفريق رياض غامضة، لم يكن أحد يعرف عنه شيئا، لكن ملامح وجهه كانت طيبة، وكانت سيرته وسمعته تسبقه، وقد عرفت مثل كل الناس معلومات أكثر عنه وكتبت عنه كثيرا، وأخذت علي نفسي عهدا أن أذكر به وبآخرين أتيح لي الوقوف علي ما قدموه في الحرب، فأنا خبير بالنسيان، آفتنا العربية. لن أنسي ميدان التحرير صباح التشييع، مصر كلها خرجت لتوديع الشهيد، عندما دخلت الميدان قادما من القاهرة القديمة رأيت مشهدا أسطوريا بحق، الميدان غص بالبشر، ربما مليونان، ثلاثة ملايين، كلهم صامتون تماما، حداد أسطوري وحزن وافد من عمق الزمن، هذا الصمت تبدد عندما تحرك الموكب، عربة المدفع تحمل جثمان الشهيد، الزعيم يتقدم الجنازة، الناس تحيط به، الطوق الأمني ينكسر عند بداية شارع سليمان باشا، يصحب عبدالناصر وجها لوجه مع الناس، كنت قريبا جدا، فجأة يحيط به مجموعة من الشباب الأقوياء والرجال متقدمي السن، أناس عاديون من عامة الشعب، ربما يراهم لأول مرة ويرونه، يشكلون طوقا بشريا حوله، يستمر تشييع الشهيد العظيم في مشهد أعظم. رأيت ذلك بأم عيني في ميدان التحرير قبل ثورة يناير.