قبل أن تقرأ.. لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي الكويتي الكبير الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود.
زرت لبنان منذ سنوات، والتقيت المرجع الشيعي السيد حسين فضل الله، وكان الهدف من زيارتي له إجراء حوار معه لنشره في الجريدة التي كنت أعمل فيها.. لكنه لم ينشر. استقبلني الرجل بترحاب، وكان واضحا أن ظروفه الصحية لم تكن تسمح له بالتحاور، لكنه أبدي استعداده حالما يتماثل للشفاء، وبعد فترة من ذلك الوعد التقيته بعد أن اطلعت علي مؤلفاته ودواوينه الشعرية إلي جانب مجموعة أشرطة الكاسيت وأشرطة الفيديو التي تتضمن محاضراته، حيث كان يلقيها في ندوات تقام له في أماكن متعددة.. وكان الحوار: الحلقة الحادية عشر كنت تلقب بالأب الروحي لحزب الله، ولكنك تواريت عن الأنظار والظهور، وهناك من يعزو ذلك إلي خلاف بينك وبين المرجعية الفقهية في إيران؟ - ما يميز الفقه الشافعي أنه يتضمن مساحة من حرية الاختلاف في الرأي والاجتهاد المفتوح، والرؤية الرسمية في الجمهورية الإسلامية في إيران تؤمن بولاية الفقيه، أي أن المرجع الفقهي المعاصر يحكم في الأرض نيابة عن المهدي المنتظر «الغائب»، وأنا أحمل رأيا قد لا يتفق مع هذه الرؤية تماما، وإن كنت مؤمنا بظهور المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا، وهذا حديث متفق عليه عند السنة والشيعة. إذن هل هناك من سبب آخر يجعل من سماحة السيد حسين فضل الله منقطعا عن نشاطه الذي كانت تسلط عليه الأضواء منذ سنوات؟! - أولا نشاطي لم ينقطع، وكما تري فإن بابي مفتوح للجميع، ولكن هذا لا يمنع أن هناك اختلافات في الاجتهادات وفي وجهات النظر في المسائل التاريخية! مثل ماذا؟! - مثلا.. أنا لي وجهة نظر فيما يتعلق بواقعة: أن الخليفة عمر بن الخطاب قام بكسر ضلع السيدة فاطمة الزهراء، فهذا المنطق لا يستقيم، فالسيدة فاطمة عليها السلام، سيدة نساء العالمين كما وصفها رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، ثم إنه من غير المنطقي أن يأتي الخليفة عمر بن الخطاب إلي بيتها، ويحصرها خلف الباب لتطرح جنينها محسن الذي سماه رسول الله «صلي الله عليه وسلم» محسنا، وهناك الكثيرون ممن يرددون هذه الرواية ويؤمنون بها، ولكنني أبديت تحفظي، وقدمت تبريراتي، وبكل أسف جوبه كل ذلك بالرفض لدي العديد من المؤسسات في العالم، بل وخرجت المظاهرات محتجة علي إبدائي مثل هذا الرأي! هل يعقل أن يحدث ذلك لسيدة نساء العالمين في حضور الإمام علي بن أبي طالب الذي عرف بالفروسية والشجاعة؟! - هذا ما كنت أقوله!، ولكن أنصار اشتداد بذرة العداء بين أبناء الدين الواحد، ما سرهم قولي هذا.. من هنا تجد أن البعض صار يجتنب الاحتكاك بي، إيمانا منهم بصحة مثل هذه العينة من الروايات وسواها، وبالمناسبة، الروايات التي تثير البغضاء بين المسلمين منتشرة عند كلا الطرفين سنة وشيعة، وكلها تسري سريان النار في الهشيم، لبث التنابذ بينهما، كأن الأقدمون قد أكلوا الحصرم، ونحن بعد قرون علي أكلهم إياه.. لا زلنا مضرسين!، ويا ويلنا من أولئك الذين يغذون مثل هذه الخلافات. هل أنت وراء الاسم الذي اطلق علي «حزب الله»؟! - «حزب الله» مصطلح قرآني: «إن تنصروا الله ينصركم».. وأنا أري أن انتصار الإنسان قائم علي شروط، هناك شرط يأتي من الإنسان.. وهناك شرط من خلال الظروف المحيطة بالإنسان.. فالله جل وتبارك يقول من شروط نصر الله لكم هو أن تنصروا الله، يعني أن تنطلقوا في نصرة الله، وأن تنطلقوا من طريق المواقع التي يحبها الله في حركة الإنسان في الحياة، وليس معني ذلك أن الإنسان بمجرد أن ينصر الله فإن الله ينصره علي المستوي المادي!، وإلا كيف هزم المسلمون في «أحد»، وكيف خاف المسلمون وزلزلوا في «الأحزاب»، وفي «حنين»،؟!، ليس معني «إن تنصروا الله ينصركم»، بمجرد ما الإنسان ينصر الله، فإن النصر حليف له رأسا.. لا... هذا معناه أن من شرائط النصر هو أن تنصروا الله، ولكن الله قد يحبس النصر نتيجة عدم توافر الشروط التي تقتضيها سنة الكون، لأننا ننظر إلي القضية من زاوية واحدة، لكن الله ينظر إليها من جميع الجهات. أما عن السؤال فيما لو كنت أنا وراء مسمي «حزب الله» فاسم حزب الله ليس بجديد، هناك الكثير من المنظمات اطلقت علي نفسها هذا المسمي، ومنها حزب الله في مصر قبل الخمسينات. ما هي فلسفة حزب الله؟! - يجب علينا أن نحمل كمسلمين الدعوة إلي الله.. يعني أنت لا تستطيع أن تقول: أنا مسئول عن نفسي فقط، فأنت إلي جانب مسئوليتك عن نفسك، عليك مسئوليات أخري، والدعوة الإسلامية، هي ليست من مسئوليات المشايخ والعلماء فحسب!.. لا.. لكننا يجب أن نحمل لواء الدعوة إلي الإسلام، نحاول أن نثقف أنفسنا بمقدار ما نستطيع، ننمي معلوماتنا حتي عندما ننطلق إلي العالم الآخر يتحول كل واحد منا داعية إسلامية بحسب حجمه وامكانياته، فالإسلام دين فطرة، يجتذب الذين يتفهمونه كما حدث لعدد كبير من فلاسفة الغرب ومثقفيه ممن اعتنقوا الإسلام، ففلسفة حزب الله تقوم علي عالمية الدين الإسلامي وتواؤمه مع الإنسانية جمعاء. إذا كان الأمر كذلك، فأين تصنف المواجهات العسكرية لحزب الله مع إسرائيل؟! - إن المواجهة العسكرية لا تنطلق من حالة انفعال أو حماس!، نحن نريد أن نواجه الأعداء الإسرائيليين، ولكن نريد أن نواجههم ضمن خطة نستطيع أن ننتصر عليهم فيها، دون أن تكون تلك المواجهة أشبه بالحالات الانتحارية التي لا نتيجة لها، فإسرائيل ليست عدوة للإسلام فحسب، بل هي عدوة للإنسانية، ومواجهتها عسكريا شرط من شروط إيماننا بديننا كمسلمين. هل من تفسير منطقي لهذه الرؤية في المواجهات العسكرية في ظل الظروف السياسية الدولية الراهنة؟! - التفسير المنطقي ينطلق من الفهم الحقيقي للإسلام، فمن لم يهتم بأمور المسلمين، فليس منهم! وهذا يعني أن يكون الإنسان المسلم متفاعلا في نفسه وفي فكره وفي مواقفه مع جميع قضايا المسلمين في العالم، وألا يعزل نفسه عن قضايا المسلمين، وأن الإنسان العربي المسلم الذي لا يفكر إلا عربيا فقط، يكون بذلك قد حصر حدوده ضمن الوطن العربي، بينما لو فكر بتوسع اهتماماته لأصبح بمستوي عقيدته الإسلامية الكبيرة! علي الإنسان المسلم أن يكون ذا عقلية حدودية متسعة باتساع طموحاته لحدود رقعة الإسلام. أين تضع الموازين الدولية والامتثال لقرارات الأممالمتحدة والقوي العالمية الكبري في هذا المنطق الذي تفضلت به؟! - تقصد أمريكا؟!، التعامل مع أمريكا يجب أن يكون منطلقا من مفهومين: المفهوم الأول: أن تكون الدول تابعة لأمريكا.. ولا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال هذه التبعية تحمل مصلحة للإسلام والمسلمين! أما المفهوم الثاني: فهو إيجاد علاقات دبلوماسية، وعلاقات اقتصادية، وتجارية، يمكن أن تكون في بعض الحالات فيها مصلحة للإسلام ضمن حدود، ولكن هل أمريكا والقوي الكبري كما تسميها، وقرارات الأممالمتحدة، كانت منصفة للإسلام والمسلمين في يوم من الأيام؟! اعطني دليلا واحدا علي ذلك! ولكن يا سيدنا.. إن تلك الموازين السياسية في العالم صارت تقاس وفق مفاهيم وقرارات دولية؟! - في كل الأزمات التي نواجهها في حياتنا كمسلمين التي لا نستطيع فيها إيجاد حل منطقي لأي أزمة منها، علينا أن نتعامل معها تعاملا واقعيا، بحيث ألا تسيء تلك الأزمة إلي القضايا الأساسية في الحالات التي نتحرك فيها علي الأرض، لأن الأزمات والمشاكل التي نواجهها كمسلمين قد تأخذ الكثير من قضايانا وقد تتغلب علينا في تفاعلاتها وفي إيماءاتها وربما في نتائجها، فليس أمامك عندما تواجهها في غياب الحلول المنطقية سوي أن نخفف فيها من خسائرنا، من هنا فعلينا أن نتعايش مع الأزمات في غياب امكانيات الحلول للتخفيف من وطأتها قدر المستطاع، لأن الاستسلام الكلي للخسارة في المواجهة يعني القضاء علينا نهائيا، وهذا ما لا يجب أن يحدث عند العقائديين الرساليين المؤمنين بدينهم. ألا يوحي ذلك المفهوم بأن سماحة السيد حسين فضل الله يؤمن بشعرة معاوية؟! - إن ننطلق كمسلمين من موقع قوة في هذا العالم باعتبارنا جزءا منه لابد لنا من مواجهة الصراعات، والصراع بطبيعته جزء من التكامل في الحياة، لأنه يمنحك القوة عندما تحتاج إلي القوة من أجل أن تتوسع في دعوتك، أو تتوسع في نفوذك، أم تتوسع في حركتك نحو تحقيق أهدافك الكبيرة، وعندما تدرس العالم من حولك فيما يختزنه من قوي ومن امكانات يمكن أن تؤثر عليك سلبا لتستعد لمواجهتها، فإن ذلك لا يمت إلي شعرة معاوية بصلة، وإنما يمت إلي «أعدوا لهم ما استطعتم من قوة»، فشعرة معاوية تؤسس لمنطق غلبة الباطل علي الحق، وهذا ما لا نرتضيه لأنفسنا كمسلمين. كيف ينظر سماحة السيد إلي امكانية دخول الإسلام كقوة تأخذ مكانها إلي جانب القوي الكبري في العالم؟! - هذا أمر يصعب تحقيقه في الظروف الراهنة، فعوامل التخلف في العالم الإسلامي تحول دون وصوله إلي مستوي ما وصلت إليه الدول المتقدمة، لكنني متأكد أن الحركة الإسلامية العالمية المعاصرة لو استطاعت أن تجتذب اهتمامات المسلمين أنفسهم ليعوا دورهم في وسط هذا العالم المتصارع، لكان ذلك بداية لتطور قد يحصد المسلمون ثماره خلال عقود قليلة من الزمان. وكيف ينظر الدعوة التي يدعوها لقيام دولة عربية قومية؟ - لابد أن تنطلق من الإسلام، بحيث يكون الإسلام فكرها وطابعها وحركتها والعنصر الأساسي في شخصيتها، فالنبي «صلي الله عليه وسلم» بارك حلف الفضول مع أنه ليس حلفا إسلاميا، لكنه كان مسرورا من عناصر ذلك الحلف، فالإسلام إذن لم يرفض الوحدة أو التحالف بين الأقوام، لكنه يرفض أن يكون عنوان هذه الوحدة يحمل فكرا قوميا عنصريا يفصل ما بين الناس ودينهم! بمعني أنني لا أريد أن تكون القومية عنصرا حاجزا بين المسلمين وبين قضاياهم المصيرية والخصوصية بالكامل، فهذا لا يتنباه الإسلام الذي دعا إلي نبذ العرقية، ورحب ب«إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» وذلك يشمل جميع الأعراق والأجناس بل والمعتقدات ضمن إطار عام يستوعب الجميع وهو الإسلام. العالم من حولنا مليء بالصراعات، فكيف تحدد من هم الأعداء ومن هم الأصدقاء؟ - أعداؤك ثلاثة: عدوك، وصديق عدوك، وعدو صديقك، وأصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك. نحن نفهم الإسلام من هذه المقولة الإسلامية، والله سبحانه وتعالي يريد منا أن نحول العالم إلي أصدقاء لنا، ولقضايانا من أجل أن يقوي الإسلام بذلك أكثر، وأن يعيش الناس في تلك الأجواء الحميمية تجاه الإسلام إذا لم يتمكنوا من أن يعيشوا أجواءه الفكرية ومفاهميه العقائدية، إن الإسلام يعمل علي أن يجمد كل التعقيدات التي يثيرها الآخرون من الذين يقفون في الموقف المضاد له، فالله سبحانه وتعالي حدد ذلك بقوله: «فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم». شكرا سماحة السيد! - عفواً.
تنويه واعتذار للأبنودي والدكتور نجم عبدالكريم ورد في حوار الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي «خطأ مطبعي» جاء فيه علي لسان الأبنودي أن «عبدالناصر سار في الاتجاه المعاكس وداس علي كل شيء ليخلد نفسه» وصحيح هذه العبارة كما جاءت في نص الحوار: «أن من جاء بعد عبدالناصر سار في الاتجاه المعاكس وداس علي كل شيء ليخلد نفسه».. لذا لزم التنويه عن هذا الخطأ المطبعي غير المقصود.