أيقظه جرس هاتفي عشية ثاني أيام العيد لأقول له كل عام وأنت بخير واطمئن علي صحته، فأخبرني صوت عم خيري بأنه قد أفاق للتو من قيلولته، مما دعاني لإنهاء المكالمة سريعا، ففي كل الأحوال لم يكن عم خيري كثير الكلام، وهو أهم حكائي الأدب العربي ، فالقارئ لأعمال عم خيري الروائية سيتلمس فيها أسلوبه المتأثر بالسير الشعبية في طريقة السرد التي كان يترك لفطرته مساحة مناسبة في رسم شخصياته وأبطاله، فهو يعد من أفضل من قدم الشخصية المصرية وأدركها جيدا، حيث عاشها بكل تفاصيلها الدقيقة خلال رحلة حياته التي امتدت لثلاثة وسبعين عاما، عاني فيها الكثير ليصل لما هو عليه من شهرة مستحقا لقب "وتد الرواية العربية" مثلما استحق أن ترشحه مؤسسة "إمباسادورز" الثقافية الكندية للحصول علي جائزة نوبل في الآداب، منطلقا من قريته شباس عمير بكفر الشيخ إلي القاهرة ليبدأ رحلته الإبداعية التي عاني في بدايتها لنشرها وكان يقيم بالمقابر حيث لا سكن له وقتئذ، عم خيري يعد من الكتاب العصاميين، فقد اجتهد كثيرا وثابر لبناء نفسه وشخصيته الإبداعية، مما اضطره للاشتغال بأعمال متنوعة وبعيدة عن الأدب مثل جمع القطن، الخياطة والحدادة، ثم النجارة واشتغل مع عمال التراحيل، حتي مهنة البائع الجائل بالمواصلات العامة، كل هذا أصقل موهبته وجعله طوال الوقت مهموما بقضايا الثقافة والفولكلور في مصر وحكاياتها والتعبير عن المكان في البيئة المصرية الذي رسمه أيضا بدقة وشفافية أسلوبه السهل الممتنع، المتميز في بعض الأحيان من الكوميديا السوداء وهي الأكثر تأثيرا وأشد عمقا للنفس البشرية، فلقد قدم عم خيري لحياة الريف خلال معايشته له كابن له تربي ونشأ هناك، مما دعم خبرته به فلم يكن من الأعيان بل من أبناء القرية العاديين، وكذلك حياة المدينة وتحولاتها الاجتماعية. يري النقاد أن شخصية حسن أبوضب في ثلاثيته "أولنا ولد وثانينا الكومي وثالثنا الورق" من أهم الشخصيات الروائية في الكتابة المصرية وشخصية الجدة في روايته "الوتد"، عبر من خلالها عن الواقع بجرأة، مثل شخصية صالح هيصة بروايته "صالح هيصة" التي وصف فيها جلسات وأصناف الحشيش بشكل لافت وغير مسبوق، أيضا اللغة عند عم خيري تميزت بالسلاسة واقترابها من اللغة اليومية رغم فصاحتها، ويرجع ذلك لاستفادته من لغة يحيي حقي الإبداعية، إضافة لكتابته المقال الصحفي الذي أكد أكثر علي التبسيط في اللغة وجعلها أكثر قربا للقارئ العادي. البعض وجد أن روايته "موال البيات والنوم" قد تكون سيرته الخاصة لأنها تجسد معاناته لكن دون اللجوء لأسلوب الميلودراما، خاصة أنه لم يكن ينوي أن يكتب سيرته الذاتية، لكنني أستطيع القول بأن عم خيري قد عرض لسيرته عبر رواياته العديدة التي كتبها، غير أنه منذ أسابيع كان قد صدر له " أنس الحبايب " الذي تضمن فصولا من سيرته الذاتية في مغامرة منه بعد تردد طويل، إنما يحضرنا هنا مقاله بالأهرام الذي نشره في مارس 2008 "بوح علي بوح..أهمية أن تعيش لتكتب سيرتك الذاتية" التي حلل عبرها أسباب عدم حماس الكتاب لكتابة سيرهم الذاتية، مقارنا سيرته مع السيرة الذاتية التي كتبها الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز في كتابه " أن تعيش لتحكي "، قائلا في ختام مقاله :" يجب أن أشكر ذلك العبقري الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز علي سيرته الذاتية: "أن تعيش لتحكي"، لأنه بهذه السيرة الذاتية ويا للعجب حقا قد علق علي صدري، صدري أنا، الكثير من الأوسمة؛ هل كان يكتب قصة حياته أم قصة حياتي وهل كان يريد إبراز الشقاء الإنساني في قرية علي شاطئ الكاريبي أم في قرية مصرية علي فرع من فروع النيل الأسمراني؟ إنه لشيء مذهل حقا أن يكتشف الإنسان لنفسه توأما لم تلده أمه ولم يضع أبوه بذرته، وأن رباط التوأمة الإنسانية أعمق وأشد وثاقة من توأمة الرحم. إن التجربة الإنسانية الحقة حين تعبر نفسا صافية تصبح الرحم الأعظم، أعمق وأنفع للبشري". من الجوانب الأخري لدي عم خيري أنه يعد باحثا متميزا نتيجة شغفه بالكتب وخاصة القديمة منها التي لا يألو جهدا في البحث عنها بشتي بقاع مصر، مثل كشفه عن نصوص التحقيق مع الدكتور طه حسين في قضيته التي اتهم فيها بالردة والإلحاد بسبب كتابه " في الشعر الجاهلي" من خلال عثور عم خيري علي قرار وكيل النيابة محمد نور بحفظ التحقيق في القضية في كتيب وصفه بأنه:" كتيب صغير جدا لا يزيد علي ملزمة واحدة، أشبه بإمساكية شهر رمضان، مطبوع علي ورق أصفر رخيص، ومكتوب علي غلافه "قرار النيابة في الشعر الجاهلي" بإمضاء محمد نور النائب العام الذي حقق مع طه حسين"، ويذكر عم خيري أنه حين وجد الكتيب شعر وكأنه ظفر بمالم يظفر به غيره، وصار يتلفت حوله متخوفا ان يتعرف أحد إلي كنزه الثمين، هذا الكنز دعاه لمناقشة القرار وحيثياته الصادرة في مارس 1927 وكان نصها "ومما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي علي الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا" من الزاوية القانونية، وإعادة رصد وقائع القضية وردود أفعالها اجتماعيا وأكاديميا وسياسيا وأدبيا، في كتابه "محاكمة طه حسين" الذي صدر في 1969، من اكتشافاته أيضا نصا مسرحيا ألفه الزعيم مصطفي كامل بعنوان "فتح الأندلس" أصدره في كتاب يحمل نفس العنوان ليسبقه بتحقيق عنه في السبعينيات تم نشره في مجلة الهلال، كذلك اكتشف مسرحية "الراهب" للعلامة الشيخ أمين الخولي. خلف عم خيري تراثا فنيا كبيرا لم يكن روائيا فقط إنما مسرحي أيضا مثل "صياد اللولي"، "غنائية سوناتا الأول"، "المخربشين"، وذلك لتأثره بكتاباته كناقد مسرحي في الستينيات بمجلة " الاذاعة " التي كان من رحمها عدد من الكتب مثل " دراسات في المسرح العربي"، و"مسرح الأزمة (نجيب سرور)" حيث جمعتهما صحبة حياتية وثقافية ومسرحية كبيرة، وكتب أخري عديدة. يحسب لعم خيري أنه أحد أهم كتاب "البورتريه" أو رسم الصورة بالكلمات ليقدم من خلالها لرموز الثقافة العربية والمصرية، ثم جمعها ونشرها في عدد من الكتب مثل "أعيان مصر"، "صحبة العشاق" و"عناقيد النور" الذي تسبقه مقدمة للناقد حاتم حافظ يتعرض فيها لجماليات البورتريه عند خيري شلبي. عم خيري هو موسوعة ثقافية عميقة وغزيرة الإنتاج، إنتاجه الإبداعي والنقدي به من المرونة ما يسمح بالعديد والعديد من الدراسات والتأويلات والاجتهادات النقدية للأجيال القادمة التي يضمن لها الدهشة المتنامية طوال الوقت، فهذا التراث لابد من جمعه وتصنيفه ونشره، ليأخذ حقه كمبدع أثري الثقافة الإنسانية.