«هوندا».. الطفل الذى حارب الفقر وتدمير «اليابان» بإنتاج سيارات غزت البلاد التى احتلت بلاده بملابس رثة ووجه شاحب ينمان عن فقر مدقع جلس الطفل «سويتشيرو» وحيدًا بعد أن فقد إخوته الخمسة بالموت جوعًا، يرقب سيارة تعمل بمحرك بخارى تمر بالقرب منه، استثارت فضوله وانطلق يجرى فى أثرها محاولاً حل اللغز كيف تسير تلك الآلة الحديدية دون قوة خارجية واضحة تحركها؟! وقف يلتقط أنفاسه بعدما فشل فى اللحاق بها، وقعت عيناه على بقعة زيتية خلفتها تلك السيارة، لينكفئ على الأرض محاولاً التعرف عليها بحاسة الشم، فشل فى اكتشافها، لكن رائحة بقعة الوقود ظلت تزكم أنفه كعطر باريسى لامرأة جميلة وقع فى غرامها وستبقى معه للأبد. قبل 8 سنوات من مشاركة بلاده فى الحرب العالمية الأولى ولد «سويتشيرو هوندا» فى مقاطعة «هماماتسو» اليابانية لعائلة معدمة، لم يكن هوندا الذى فشل فى المدرسة كارهًا للعلم، لكنه كان كارهًا لنظام التعليم، ذهب إلى التعليم الذى يرجوه، حتى ولو كان ذاتيًا فى ورشة والده الذى يعمل حدادًا، ويصلح الدراجات الهوائية، تعليم عملى بالممارسة والتجربة. كان «سويتشيرو» الشغوف بالميكانيكا يراقب فى صمت، ويتعلم كيف يستخدم والده الأفران فى صهر المعادن وصب القوالب، عمل مع والده فى الورشة حتى صار ذراعه اليمنى، قبل أن يدفعه طموحه للرحيل إلى طوكيو للعمل –ميكانيكي- فى ورشة لإصلاح السيارات تاركًا المدرسة فى عمر 15 عامًا. 6 سنوات مرت على عمله الجديد تميز فيها إلى الحد الذى استطاع فيه تحويل محرك طائرة وقطع غيار متناثرة إلى سيارة سباق، شارك بها –كسائق- فى سباقات عديدة، لكن هذا النجاح لم يرو ظمأه. فى عام 1928 غادر الشركة ليؤسس ورشته الخاصة التى نجح فيها أن يخترع مكابس معدنية -صمامات- للسيارات بدلاً من المكابس الخشبية التى كان يُعتمد عليها آنذاك. اقترض مالاً لينتج قطع غيار مخصصة لشركة تويوتا العملاقة، لكنه اصطدم بعدم مطابقتها لمقاييس الشركة، رغم الصدمة الكبرى لم يتوقف عن الحلم، أدرك قيمة العلم، فعاد للالتحاق بالمعهد الفنى للمقاطعة ودراسة الميكانيكا، لينجح بعدها فى إجراء تعديلات على قطع الغيار المرفوضة، دفعت تويوتا لشرائها بعد عامين من التجارب أثبتت مطابقتها للمقاييس. من مال تويوتا أسس هوندا مصنعًا صغيرًا لإنتاج قطع غيار السيارات فى وقت كانت فيه اليابان تتأهب للحرب العالمية الثانية، لم يجد مواد بناء ليشيد مصنعه، فاخترع بمساعدة أصدقائه خلطة خرسانية بنى بها المصنع ونجح فى بدء أول خط انتاج. لكن نوائب القدر كانت تنتظر هوندا مرة أخرى عام 1944 حين ضربت إحدى قاذفات القنابل الأمريكية مصنعه ودمرته، لم يستسلم، اجتمع بعماله أمام حلمه المدمر وطلب منهم جمع صناديق الوقود الفارغة التى كانت تتخلص منها المقاتلات الأمريكية، ليستخدمها فى عملية التصنيع مطلقًا عليها «هدايا ترومان» -نسبة إلى الرئيس الأمريكى وقتها-! قام بإعادة بناء ما دمر من المصنع، واستعان بالنساء بعد أن قضت الحرب على عماله من الرجال، لكنه بعد عام فقط دمر الزلزال العنيف الذى هاجم اليابان المصنع مرة أخرى، ليضطر لبيع براءة اختراع مكابس وصمامات السيارات لشركة تويوتا بعد أن أفلس تمامًا. انتهت الحرب العالمية الثانية بتدمير كامل للإمبراطورية اليابانية على يد الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها، سلسلة من الهزائم للجيش اليابانى الذى تم تسريحه فيما بعد، دمرت طوكيو بالكامل وقتل مئات الآلاف من المدنيين فيها، استسلام مهين من الإمبراطور اليابانى «هيروهيتو»، واحتلال أمريكى بريطانى استرالى لليابان إثر قنبلتين نوويتين بينهما 3 أيام ألقيتا فى شهر أغسطس عام 1945 على مدينتى هيروشيما وناجازاكى حصدت أرواح مئات الآلاف فى إحدى أهم الكوارث البشرية فى القرن التاسع عشر. عقب تعيين الجنرال الأمريكى ماك آرثر -ممثل دول الاحتلال- حاكمًا فعليًا لليابان انهار الاقتصاد، وظهر نقص حاد فى الإنتاج والسلع والغذاء، انتشرت الأسواق السوداء، وبدأت معها المجاعة والبطالة ترفرف فى سماء أحفاد الساموراى - نحو 10 ملايين عاطل بينهم 5 ملايين قوام الجيش اليابانى المسرح-، لكن قطاعا الأعمال الحرفية والزراعة نجحا فى امتصاص حدة الانهيار الاقتصادى باستيعابهما لأصحاب البطالة فى الست سنوات العجاف التى صاحبت الاحتلال. كانت اليابان تعانى أزمة حادة فى الوقود، شلل تام أصاب حياة الناس، لم يستطع هوندا حتى قيادة سيارته لشراء احتياجات اسرته شأنه شأن الكثيرين، ولأنه اعتاد أن يصنع من الصعاب نورًا خطرت فى باله فكرة لحل المشكلة، استخدم الموتور الخاص بماكينة قديمة للحشائش كانت لديه فى تحويل دراجته الهوائية إلى دراجة نارية عوضًا عن السيارة، ليعجب أصدقائه بالاختراع ويطلبوا منه تنفيذ نفس الفكرة فى دراجاتهم الهوائية. أسس معهدًا للأبحاث التقنية والميكانيكية لإيمانه بأن العلم هو وحده القادر على صنع تميزه، وأطلق شركته الجديدة التى أنشأها باسمه عام 1948، درس منافسيه جيدًا، ثم بدأ فى تطوير محركات الدراجات النارية بعدما لفت نظره إقبال من حوله إلى إمكانية تعميم التجربة وفتح أسواق جيدة لاختراعه. طرح هوندا إصداره الأول من دراجته النارية باسم «Dream»، ونجح بحملة تسويق مبتكرة قام فيها بالمشاركة فى سباقات الدراجات النارية بدراجته وفاز بالمراكز الأولى ليقدم نموذجًا عمليًا على تفوق اختراعه على جميع الشركات المنافسة له، لتزيد مبيعاته فى العام التالى ويسيطر على 70% من انتاج السوق الياباني، ويصبح الشركة الأولى بعد طرح الأجيال الأخرى من الدراجة النارية هوندا. عام 1959 حمل لهوندا تفوقًا أكبر عندما نجح فى غزو الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد جلائها من بلاده بسبع سنوات إثر معاهدة السلام «سان فرانسيسكو» بموديل « Super Cub» الذى أخضع الأمريكيين له بحملة دعائية ناجحة كان شعارها «ستقابل ألطف الناس عندما تقود دراجة هوندا»، إلى الحد الذى نسى فيه الشعب الأمريكى الدراجة الهوائية. وفى عام 1961 نجح هوندا فى السيطرة على السوق الأمريكى بمائة ألف دراجة نارية زادت إلى مليون عام 1968، ووصل فى عام 1990 إلى 3 ملايين دراجة نارية مصدرة بما يشكل 60%من حصة السوق الأمريكي بفعل تناسب سعرها مع جميع الطبقات . فى عام 1962 دخل هوندا الذى حقق نجاحه الأكبر فى الدراجات النارية سوق صناعة السيارات بتصميم سيارات السباق، ورغم كثرة مصانع السيارات فى اليابان وقصص الفشل السابقة لعدة شركات يابانية فى الدخول للسوق لم ييأس، وبدأ طريقه فى صناعة السيارات عام 1969 من نقطة تميز أضافها لمحرك سيارته الذى نجح فى أن يجعله الوحيد بين محركات السيارات المنافسة صديقًا للبيئة ومقاومًا لتلوثها ليتناسب مع المواصفات القياسية للسوق الأمريكى الذى سبق أن سيطر عليه بدراجته النارية، ويصدر له أول الجيل الأول من سيارته. بفضل هذا الاختراع نجح هوندا فى التفوق على أسماء كبرى فى صناعة السيارات مثل تويوتا ونيسان ومرسيدس وحتى بى ام دبليو بأول أجيال سيارته التى صدرت تحت مسمى السيارة المدنية، خاصة بعدما رفض الانسياق وراء رغبات تلك الشركات الكبرى فى رفع أسعار السيارات وخفض الإنتاج على خلفية أزمة البترول، بل قام بمضاعفة انتاجه وتخفيض السعر، وهو ما ضاعف مبيعات هوندا لتحتكر فى الأعوام من 1989 إلى 1992 لقب السيارة الأكثر مبيعًا فى العالم، وفى عام 1993 احتلت المركز الأول فى السوق الأمريكى بعد وفاة هوندا عام 1991. قصة هوندا واحدة من قصص نجاح كثيرة كونت تجربة نهضة اليابان الحديثة من بلد محطم خارج من الاحتلال بلا جيش بلا اقتصاد إلى دولة عظمى تناطح الدول الكبرى كأحد أهم اقتصاديات العالم التى قامت على العلم والصناعة المعتمدة على العمالة الفنية والتعليم الفني. كما حارب هوندا فقره وتدمير بلاده واستثمر قدراته وولعه بالميكانيكا لإنتاج دراجة نارية وسيارة غزا بهم العالم الذى احتله، فعل نفس الأمر «أكيو موريتا» مؤسس «سوني» و«ماتسوشيتا» مؤسس شركة ماتسو العالمية المنتجة للعلامتين التجاريتين «باناسونيك وناشيونال» للأجهزة الكهربائية. التعليم اليابانى له جذور راسخة وضعها الإمبراطور الميجى أو «الحاكم المستنير» (موتسوهيتو) عام 1886 بعدما قاد حركة اصلاحية شعارها «بلد غنى وجيش قوي» صاحبها ثورة فعلية قام بها على نظام التعليم والذى استمد قواعده الجديدة من النموذج الفرنسى كان نظام التعليم قبل الحرب العالمية الثانية يضم نظامين خصصا لدعم الصناعة والزراعة والحرف الأخرى. هذا الإرث التعليمى ساعد اليابانيين فى النهوض مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، وضعوا هدفهم الرئيسى لإعادة الاعمار بخلق مجتمع مهنى وليس نخبة مثقفة، عملوا استكمال عودة المدارس الابتدائية التى سميت ب«Gakk» والتى تجمع فى دراستها بين التدريب المهنى والتدريب العسكرى الأساسى «للصبية» والاقتصاد المنزلى «للفتيات» مع انشاء فصول مسائية لاستيعاب الطلاب العاملين بعد انتهائهم من اعمالهم. تحول التعليم اليابانى إلى تعليم يعتمد على التفكير والفهم أكثر مما يعتمد على الحفظ والتلقين، وتم تعديل نظام التعليم ليعكس الأفكار اليابانية. للمفارقة الموجعة أن التعليم الفنى فى مصر سبق اليابان بأكثر من 50 عامًا حين أدخله محمد على باشا عام 1829 بقصه لشريط أول مدرسة فنية زراعية تحت اسم «الدرسخانة» فى القاهرة أعقبها بإنشاء مدرسة «المهندسخانة» عام 1834 فى حى بولاق، ثم افتتاحه لمدرسة الصنايع برشيد ومدرسة الرى فى بولاق، وهو أساس التعليم المصرى الذى انبثق منه نظام التعليم بأكمله، فقبل التعليم الفنى لم تعرف مصر مدارس الثانوية العامة ولا حتى المدارس الابتدائية. تلك النهضة التى لم يستغلها من جاءوا بعده إلى أن عاد الاهتمام بالصناعة والتعليم الفنى فى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذى كان يشارك محمد على أفكاره فى بناء مصر - الجمهورية الأولى- حيث أنشئ للمرة الاولى عدد من المدارس المتخصصة التى تهدف لتخريج أفراد قادرين على قيادة المشروعات التنموية بالعلم، تم تأسيس مدارس للغزل والنسيج ومدارس للتمريض ومدارس للبريد ومدارس للسكة الحديد، وتم إنشاء شركة النصر للسيارات عام 1961 ومعهد تدريبى ملحق بها. لكن التعليم الفنى مات وذهب إلى غيابات الجب بموت عبدالناصر وفى عهود من تلاه برغم محاولات الإنعاش النادرة والتى لم تكن تمتلك الإرادة الكافية، ما بين الانفتاح والخصخصة. على ضفاف النيل جلس يراقب أهازيج العشاق وعنفوان لحظاتهم الجميلة، يتذكر لحظته فيبتسم فقد كان مكانهم يوما ما. يمسك بيد أول من دق لها قلبه-فاطمة- فترتجف يده العذراء، يبعدها مرغمًا، يخاف عليها حتى من نفسه: «هانت يافاطمة كلها أسابيع وهطلبك من أبوكى ونتجوز» تنتفض وجنتاها من سعادة لم تخل من حياء: «أنا مستنيه اليوم ده بفارغ الصبر». كان منصور- أو البشمهندس كما يلقبه أهل قريته- قد انتهى لتوه من تجهيز عش الزوجية الصغير، 4 سنوات سابق فيها الزمن لينال محبوبته ويحقق حلمه، يعمل ليل نهار بعد حصوله على الدبلوم الصناعي، ينير بيوت القرية ويصلح الكهرباء بها بخبرة اكتسبها من العمل منذ كان طالبًا، بينما يرقب محبوبته فى انتظار تخرجها فى معهد الخدمة الاجتماعية الذى التحقت به. سنوات لم ينقطع فيها عن انتظارها فى نهاية اليوم الدراسى بالمعهد على مشارف القرية، يحرسها بعيناه إلى بيتها. تؤدى فاطمة امتحان السنة النهائية فى انتظار نتيجة التخرج، ومنصور يتأهب لقطف حلمه، يجمع عائلته الصغيرة حاملاً الهدايا متوجهًا صوب بيتها: «ياحاج عربى احنا جايين طالبين القرب فى فاطمة لمنصور». تمر الجملة على أسماعه كمقطوعة موسيقية يطرب لها، يسمع صوت البحر أبو جريشة -مطربه المفضل- فى أذنه وهو يشدو: «مقادير مقادير مقادير تعبنا من المشاوير»، يقطع عزف روحه مشاهد استهجان بدت على وجه أبيها منهيًا لحظات الصمت بجملة معتادة: «ربنا يفعل اللى فيه الخير». كلمات روتينية يعرف كل من يسمعها ماذا تخبئ ورائها فى مثل هذه الحالات: «انت شاب ممتاز ومكافح وأى واحدة تتمناك بس يا بنى مافيش نصيب». دارت به الدنيا استجمع نفسه واستقوى على دموعه حتى تحجرت فى عينيه متسائلاً عن السبب، لتأتيه الإجابة بعد الحاح مستميت: «فاطمة مؤهل عالى وانت ماتآخذنيش دبلوم صنايع، وانت عارف العادات والتقاليد والناس». صوت المسجد يصدح بدعوة جماعية لأهل القرية معلنًا عقد قران فاطمة، تخترق أسماعه كالرصاص، يكاد أن يقتل صعقًا بالكهرباء، للمرة الأولى لم يستكمل عمله مضى مسرعًا يغالب دموعه فتغلبه، شريط الحياة يمر كفيلم سينمائي، يأتيه صوت رئيس الجمهورية آنذاك –مبارك- وهو يتحدث عقب عودته من ألمانيا عام 1991 منبهرًا بالتجربة الألمانية فى التعليم الفني، معلنًا تطبيقها فى مصر، ومؤكدا قيمة خريجى المدارس الفنية وأنهم الأساس الذى سيبنى المحروسة. ذلك اليوم الذى غير حياته بعدما قرر والده تحويل مساره من الثانوية العامة إلى مدرسة الصنايع -قسم كهرباء- برغم مجموعه المرتفع فى الشهادة الإعدادية، ليكتشف بعدها أنها لم تكن إلا أضغاث أحلام لمبارك وكوابيس له. تقوده قدماه إلى النيل الذى احتضن حبه وحلمه البريء مع فاطمة، ينظر فى أسى إليه وقد اسودت مياهه بظلام الليل، قبل أن يسود والد فاطمة الطريق فى وجهه. ينشد بلهجة صعيدية تتخللها الدموع «سافر حبيبى وداخلى يودعني، بكى وبللت المحارم وأنا قلت ايه يعني» يضع قدمًا خلف السور الحديدي، يلقى نظرة إلى الخلف يودع بها كل شيء وهو يردد: «والله فراق الحبايب مر يوجعني» يلقى بنفسه إلى النيل الذى لم يقسَ عليه يومًا، مهزومًا بعد أن كان منصورًا. حدث بالفعل فى محافظة المنيا لدينا الآن ما يقارب من 2 مليون طالب فى المدارس الفنية وفقا لآخر احصائية لوزارة التربية والتعليم لعام 2017-2018، يدرسون فى 2266 مدرسة موزعة على 27 محافظة مقسمة إلى1157 مدرسة صناعية و243 مدرسة زراعية و750 مدرسة تجارية و116 مدرسة فندقية جميعهم يمكن أن يتحولوا لمنصور الذى هزمه المجتمع، ونفذ فيه حكم الإعدام ممهورًا بختم غير لائق اجتماعيًا، والتهمة دبلوم صنايع.