وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة "Thinqi"    تفاصيل الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات والنمسا    تجار السمك يعدلون عن قرارهم بعدم توريد أسماك ل«حلقة» سوق شطا بدمياط    وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش يدعو الموساد لاغتيال قيادات حماس وإبادة قطاع غزة بالكامل    تقرير: إسبانيا توافق على إمداد أوكرانيا بصواريخ باتريوت    استقالة المتحدثة الإقليمية.. كيف تسببت سياسات بايدن الداعمة للاحتلال في تفكك الخارجية الأمريكية؟    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    دوري أبطال إفريقيا.. وسام أبو يقود تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    أحمد سليمان: وفرنا كل الإمكانات للاعبي الزمالك قبل مواجهة دريمز    مفاجأة كبرى.. أنشيلوتي يجهز نجم الفريق لموقعة بايرن ميونخ    أصحاب المخابز بالمنيا يرفضون تنفيذ قرار تخفيض الأسعار.. والأهالي يرفعون دعوات المقاطعة    بعد سقوط عصابة «تجارة الأعضاء» في شبرا.. هل نفذ المتهمون جرائم أخرى؟.. (تفاصيل)    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    تمثال على شكل أبو الهول.. كيف وصلت سمات الآثار الفرعونية لمتحف بيروت الوطني؟    ثقافة المنوفية: تنظيم 25 فاعلية ثقافية وفنية خلال شهر أبريل    الصحة: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    الكشف الطبي بالمجان على 1085 مواطنا في قافلة طبية بمياط    مستشفى بني سويف للتأمين الصحي ينجح في تركيب مسمار تليسكوبي لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    25 مليونًا في يوم واحد.. سقوط تجار العُملة في قبضة الداخلية    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد النصر بالعريش    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    حماية العمالة غير المنتظمة.. "العمل": آلاف فرص العمل ل"الشباب السيناوي"    الإسكان: تنفيذ 24432 وحدة سكنية بمبادرة سكن لكل المصريين في منطقة غرب المطار بأكتوبر الجديدة    بالفيديو والصور- ردم حمام سباحة مخالف والتحفظ على مواد البناء في الإسكندرية    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    11 مساء ومد ساعة بالإجازات.. اعرف المواعيد الصيفية لغلق المحلات اليوم    تواجد مصطفى محمد| تشكيل نانت المتوقع أمام مونبلييه في الدوري الفرنسي    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    في ذكرى ميلادها.. أبرز أعمال هالة فؤاد على شاشة السينما    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    موضوع خطبة الجمعة اليوم: تطبيقات حسن الخلق    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    نور الشربيني ل «المصري اليوم»: سعيدة بالتأهل لنهائي الجونة.. وضغط المباريات صعب «فيديو»    كاتب صحفي: الدولة المصرية غيرت شكل الحياة في سيناء بالكامل    مقتل إسرائيلي بصاروخ مضاد للدروع أطلقه "حزب الله" اللبناني    طريقة عمل هريسة الشطة بمكونات بسيطة.. مش هتشتريها تاني    نائب وزير خارجية اليونان يزور تركيا اليوم    انطلاق انتخابات التجديد النصفي لنقابة أطباء الأسنان بالشرقية    خبير: أمطار غزيرة على منابع النيل فى المنطقة الإستوائية    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    إسرائيل تضع شرطًا للتراجع عن اجتياح رفح    تؤجج باستمرار التوترات الإقليمية.. هجوم قاس من الصين على الولايات المتحدة    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    جامعة الأقصر تحصل على المركز الأول في التميز العلمي بمهرجان الأنشطة الطلابية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    النيابة تقرر حبس المتهم في واقعة إنهاء حياة «طفل» شبرا الخيمة    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى الذكرى ال«107» لميلاده: نجيب محفوظ الأكثر حضورا رغم غيابه
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 11 - 12 - 2018

تمر هذه الأيام الذكرى السابعة بعد المائة على ميلاد كاتب نوبل العربى الوحيد نجيب محفوظ «11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006».
فلاشك أن ملكة نجيب محفوظ الأولى كانت موهبته الإبداعية التى جعلت منه أكبر روائى عربى طوال القرن العشرين، والرائد الذى شق أكثر من درب، لكن تلك الموهبة ما كان لها أن تنتج هذا الإنتاج الكبير والكثيف والرائع لولا تضافرها مع عقلانية ترصد المجتمع وحدود التحرك فيه، ولا يمكن اعتبار نجيب محفوظ الأديب العربى الوحيد الذى جعل العقل أساساً فى كتاباته ،لكنه عرف كيف يوظف الفكر العقلانى بشكل متميز فى تلك الكتابات ، وفى تطور خلاق وواضح، سار على خط متواصل منذ رواياته الفرعونية الأولى وحتى الأخيرة، والذين نعوا دائما على الأدب العربى خلوه من الفلسفة على اعتبار أن المفكرين العرب اكتفوا بتفسير فلسفات الآخرين،عليهم أن يقرؤوا نجيب محفوظ من جديد ليكتشفوا وجود فلسفة متكاملة تصل لديه ما بين عقلانية نهضوية وأصالة روحية شرقية كما يقول الناقد اللبنانى إبراهيم العريس،وهى فلسفة تستمد أجزاءها من نوع من الوضعية المنطقية يتميز بجانب روحى عميق لا يريد الافتراق عن دين الشعب،لا عن دين السلطة وموظفيها
وتلتقى بنوع من الاشتراكية الإنسانية واقفة فى مسألة صراع الأجيال،مع الأجيال الجديدة الواعية.
ونجيب محفوظ لم يكتب الشعر ولم يكتب أى سيرة ذاتية حقيقية، وحاول أن يخفى نفسه دائما خلف أدبه، يمكن اعتباره كاتبا من النوع الهندسى العقلانى إلى جانب كتاب من نوعية توماس مان ومرجريت يورسينار وغيرهما من كتاب القرن العشرين الذين مكنتهم موهبتهم وخيالهم وعبقريتهم فى استخدام الأحداث والرؤى الحية وتراكمها من خلق تلك الأعمال التى يصح وصفها بالأعمال الموازية للحياة أكثر مما يصح وصفها بأى واقعية مبتذلة.
بالنسبة إلى هؤلاء الكتاب يكون فعل الكتابة فعل إعادة خلق للحياة، على الورق، وهو معنى يدنو مما كان يعنيه لوسيان جولدمان الناقد الفرنسى الشهير حين ابتكر فكرة «الإله المخبوء»، وطويلا ما عبر عنه مخرجون سينمائيون من أمثال هتشكوك جعلوا العمل الفنى ميدانا للتلاعب، وإعادة التلاعب بالحياة والمصائر.
والإنسان فى أدب نجيب محفوظ موجود بل هو مركز هذا الأدب ومحط اهتمام الكاتب،وهو إنسان من لحم ودم ،منتزع من قلب الحياة لا من قلب تصور مجرد عن الحياة، قد تبدو شخصيات معينة كأنها رموز، لكن الحقيقة تقول لنا إن رمزيتها اتضحت لاحقا فيما بعد، من خلال علاقة الشخصيات بالقراء، فمثلا السيد أحمد عبد الجواد رب تلك العائلة التى تروى لنا أجزاء الثلاثية ومسارها وهو يشبه كل أب لهذا النوع من العائلات الشعبية المتوسطة.
ويرى الروائى إبراهيم عبد المجيد أن الجميع تعارف على أن الرواية التاريخية بشكل عام هى التى تتحدث عن ماض بعيد عن القراء المعاصرين للعمل، كانت هذه الروايات على قيمتها لا يهتم الكاتب فيها بالإبداع فى الشكل الروائى، فهو مهموم أكثر بإعادة صور من الماضى حافلة بأشكال النضال والحب من أجل الأوطان، نجيب محفوظ طبعا فعل ذلك فى بدايته، لكن لسبب آخر وهو انه كان يريد ان يصنع للرواية العربية تاريخا كتاريخ الرواية فى العالم. رواية تاريخية ثم رواية واقعية ثم رواية حداثية وهكذا، تطور شكله الروائى مع تقدمه فى العمر والكتابة، وفى بعض الأحيان سبق عصره.
ويرى الناقد الأردنى فخرى صالح أن نجيب محفوظ فى غيابه يصبح مفتوحا ككتاب،يتحول إلى نص تتعدد قراءاته ويكون مفتوحاً على التأويل والتقليب والغوص فى الأعماق. فى غيابه يكون أكثر حضوراً، وتعيش نصوصه حياته دون أن تتعثر بصاحبها، لقد استطاع نجيب محفوظ بالمثابرة، والقدرة على تمثل المنجز الروائى فى العالم، أن يجعل الكتابة الروائية،المجتلبة من تاريخ الآداب الأخرى،نوعاً أصيلا فى سلسلة الأنواع الأدبية العربية، فكان أن تحولت الرواية من ضيف فى سلسلة تلك الأنواع إلى واحد من سكان البيت الأصلاء.
لا أحد من الكتاب العرب فى القرن العشرين سوى طه حسين، كانت له المكانة التى احتلها نجيب محفوظ، روائى عمل بدأب حتى آخر لحظة فى حياته على الإخلاص للكتابة الروائية، حتى أنه يعد أغزر الروائيين العرب إنتاجا، ظل يكتب حتى وهو فى التسعين من عمره متذكرا أحلامه حتى وهو يصوغها صوغا قصصيا، معيداً تأمل تجربته المديدة فى الحياة بعين الروائى وقلب المتصوف.
فى إنجازه الروائى يتحقق شرطان : الأول متعلق بكتابة تاريخ المجتمع المصرى فى القرن العشرين على هيئة سرد روائى تعلق شخصياته بالذاكرة فلا تزايلها، من ينسى السيد أحمد عبد الجواد أو كمال عبدالجواد، أو سرحان البحيرى أو عيسى الدباغ؟ أما الشرط الثانى فمتصل بالأسلوب، بالشكل الروائى الذى حقق على يدى محفوظ نضجاً وضع الرواية العربية فى أفق الكتابة الروائية العالمية ،فكان أن نال محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988 كأول عربى يحظى بهذه الجائزة.
وقد قال نجيب محفوظ عن فحوى كتاباته: أنشد فى أعمالى عموما حرية الإنسان مع العدل مع العلم، هذه العوامل الثلاثة يشكلون جسرا متوافقا بين الحضارة الحديثة وبين التراث العربى الإسلامى، ويتساءل: من قال إننى لم أكتب فى الأدب الإسلامى؟ أصل كلمة أدب إسلامى لها معنى :أنك تكتب عن شىء إسلامى مباشر مثل عبقريات العقاد أو كتابات مصطفى محمود أو روايات جورجى زيدان ،أو تكتب أدباً يخلق رؤيا وآدابا وتقاليد إسلامية وبالتالى أعكس ثقافة إسلامية يعنى لا تستطيع أن تسمى أدبى إلا أدباً إسلاميا وإلا فيما إذن تسمى القيم التى أتحدث عنها، إن أدبى متأثر بالثقافة الإسلامية وبالقيم الإسلامية.
ويرى الدكتور محمد عبد المطلب أن اسطورة نجيب محفوظ جاءت ملتبسة ببداية مشروعه الروائى الذى تمثلت بشائره فى الحس التاريخى الذى لا يعرف إلا منطقا واحدا هو منطق التقدم إلى الأمام، ومنطقه هذا يعنى أن التغيير ضرورة حتمية، وأن أى توقف هو توقف مؤقت يواصل بعده التاريخ حتميته الحاكمة، والعراقة كالتاريخ المصرى الذى استلهمه محفوظ فى إطار من الرومانسية حيث قدم رواياته: عبث الأقدار 1939، ورادوبيس 1939، وكفاح طيبة 1943. ورغم انتماء هذه الأعمال الإبداعية إلى التاريخ الفرعونى، فإنها تكاد تلتحم بالواقع المعاصر خلال هذا القناع التاريخى كأن محفوظ كان يستجير من الحاضر بالماضى، فمجموع شخوص هذه الأعمال هو نوع من الإسقاط الفنى الذى يحميه من ظلم الاحتلال وفساد السلطة آنذاك، ومن الواضح أن المرحلة التاريخية رغم محاولات ربطها بالحاضر ،ورغم تحولها إلى نوع من الإسقاط، كانت فى حقيقتها ابتعادا عن مباشرة الواقع المعيش، ومن ثم احتاج اكتمال المشروع الروائى إلى تعديل المسار لمقاربة الواقع من ناحية،ووضعه تحت طائلة المساءلة من ناحية أخرى.
والنظرة الكلية لمشروع نجيب محفوظ،تؤكد أن هذا المشروع قد مر بثلاث مراحل متشابكة تسلم فيه كل مرحلة للتى تليها الأولى: مرحلة السرد الرومانسى المشبع بعناصر التاريخ المصرى القديم، والمغلف بخيوط الحس الوطنى خطوط من المغامرة العاطفية.
أما المرحلة الثانية فهى مرحلة الواقعية التى بدأت تجلياتها بروايته «القاهرة الجديدة» الصادرة عام 1945 وقد صدرت إحدى طبعاتها تحت اسم» فضيحة فى القاهرة»، وأخذت فى السينما اسما ثالثا» القاهرة 30»، ولا شك أن دخول هذه المرحلة كان إشارة بالغة على النضج الفنى للمشروع وصاحبه،لأن محفوظ لم يكن – فى هذه المرحلة- مجرد أداة لتسجيل الواقع، بل كان بمثابة «المُشاهد» بالمعنى الصوفى، لأن هذا المُشاهد هو الذى يدرك فى مشاهداته المادة الأولى «الخام» لمكونات هذا الواقع، كما يدرك تحولاتها الداخلية والخارجية،الظاهرة والخفية،ومن ثم كان صاحب حق شرعى فى إبداء الرأى، وتحديد وجهة النظر خلال النص سواء تم ذلك بوصفه شخصية مشاركة من الداخل،أو مطلة من الخارج،وسواء تم ذلك على نحو مباشر، أو عن طريق الأقنعة والإسقاط، أى أن السرد لم يكن مجرد رصد وصفي،إنما هو تعرية وكشف لمفارقات الواقع الطبقية والاجتماعية، وتناقضاته الاقتصادية والسياسية،وتصادماته الفكرية والثقافية.
إن أعمال نجيب محفوظ فى هذه الفترة كانت فضاء واسعا لمجموع الأيديولوجيات السائدة ،وبؤرا عميقة لمجموع التوترات بين الجمود والتطور، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، كما كانت الأعمال عالماً مزدحما بمفارقات الأجيال والأحداث والشخوص ومفارقات الثورية والانتهازية،والاستقرار والقلق والاستواء والشذوذ،والانتظام والفوضى.
إذا كانت «القاهرة الجديدة» هى باكورة المرحلة الواقعية،فإن الأعمال التالية، قد أدخلت الواقعية فى تحول حاسم للمصارحة والمواجهة نلاحظه فى «زقاق المدق» عام 1946، و«بداية ونهاية» عام 1948، ثم أخذت الواقعية صورتها الأكثر كمالا فى الثلاثية: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية من عام 1949 إلى عام 1957 .
وتأتى المرحلة الثالثة ملتحمة بالثالثة فى «الواقعية الرمزية «التى تلتحم بمرحلة التجريب الشكلى ونقل السرد إلى نوع من الوعى التأملى والفلسفى وهو ما نلمح صداه فى روايات مثل: أولاد حارتنا 1962، واللص والكلاب 1963، والطريق 1965، والشحاذ 1967 وقلب الليل 1975، ثم الحرافيش 1977، ورحلة ابن فطومة 1983، لكن التأمل الفلسفى يكاد يكون مسيطراً فى «الطريق» و«الشحاذ»،حيث اتسع التأمل لإدراك المطلق إدراكا عقليا.
وبعد العدوان على نجيب محفوظ سنة 1994 دخل فى طور طاريء خلال كتابه «أصداء السيرة الذاتية» فى نصوص قصيرة متعددة الملامح يصعب إدخالها فى نطاق مفهومى محدد، وهى نوع من التوافق مع المرحلة السنية التى بلغها بكل ما تحمله من ضعف فى الحواس والجسد لا يسمح بكتابة النصوص الطويلة. فى هذه المرحلة يمكن إدراك ملامح الإشارات الصوفية التى ظهرت بوادرها فى أعمال سابقة، لكن الإشارات كانت أوضح فى أحلام فترة النقاهة ،ويبدو أن هذه الإشارات كانت موازية لإحساس الفقد،حيث غاب الكثير من رفقاء العمر، وغاب كثير من أحداث الماضى القريب والبعيد ،حيث قال نجيب محفوظ» إن الأديب عندما يتقدم به العمر،ينحصر تفكيره فى الزمن والموت وقضايا الفلسفة ،وتشعر فى كتاباته بالشجن والرغبة فى العودة إلى الماضى».
وتمثل أعمال نجيب محفوظ لوحة حية لمصر خلال القرن العشرين،وفى الوقت نفسه تمثل خريطة جغرافية وتاريخية لها ،لكنها الخريطة التى لا تعرف التوقف أو التجمد،بل هى متنامية مع حركة التاريخ وامتداد الجغرافيا ،ومن يقرأ ثلاثيته الخالدة يستوثق من هذه الحقيقة الفريدة ، فقد رصدت تحولات أجيال ثلاثة فى أسرة واحدة ،بدءا من عام 1919، ومن يتابع زقاق المدق يلحظ تحولات الأزمنة ومصائر الشخوص، ثم تأتى الكرنك لترصد لترصد سلبيات المرحلة الناصرية 1974، أما تاريخ السلطة فقد سيطر على الحرافيش عام 1977، وسجلت « أهل القمة»،و» الحب فوق هضبة الهرم» مرحلة الانفتاح فى عهد الرئيس السادات.
ويرى الدكتور محمد عبدالمطلب أن هذه اللوحة يمتزج فيها التاريخ بالجغرافيا بالشخوص شكلت كما هائلا من التوافقات والتصادمات، امتدت خطوطها لتلتحم بالفلسفة والاجتماع وعلم النفس ،ومن ثم كان من العسير حصر أعمال نجيب محفوظ فى مجموعة من الأطر المحفوظة،بل يمكن القول إن كل عمل من أعماله كان يستدعى الإطار الذى يلائمه،ويحتكم إلى الإجراءات التى تفرضها خصوصيته،ومن ثم يمكن تلقيه بوصفه نصاً «حمال أوجه» يقوم متلقيه بإعادة إنتاجه على النحو الذى استقبله فى أفقه،فحكايات حارتنا يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا واحدا، وبوصفها مجموعة قصصية متعددة الركائز والأركان،ويمكن تلقيها بوصفها نوعا من السيرة الذاتية نتيجة لسيطرة ضمير المتكلم عليها، و«الكرنك» يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا ويمكن استقبالها فى أفق مسرحى نتيجة لسيطرة الحوار على متنها، واستحواذه على قطاع كبير منها.
ورغم أن تأثير إبداعات محفوظ هى أكثر التأثيرات حضورا فى إبداع الأجيال التالية له رغم ذلك لم يحاول يوما أن يحجب غيره من المبدعين،وعندما يتردد هذا الكلام يبدى عجبه لأن هذا يعنى أن الأجيال اللاحقة لا تملك قدرا مناسبا من الثقة فى النفس، إذ لا يمكن لأديب مهما ارتفعت قامته أن يحجب سواه، أو أن يغلق الطريق أمام الآتين بعده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.