رسوم: مجدى الكفراوى يتمعن فى الريشة بين أصابعه، يطمئن على رأسها الهرمي، لم يتلفها العزف، يفضل لونها الأسود، يراه قويا، اللون الغامق مع خامتها الصلبة المرنة، يجعلان منها أداة مذهلة، وقتما تبدأ الريشة فى العبث بأوتار العود، تتنقل بينهم برشاقة راقصة إفريقية، فتعبث بهم حتى الاشتعال، تنبعث النغمات، تلعب بمشاعر العوّاد والناس، كأنها تأوهات عاشقة بين يدى عاشق. ما حدث له الليلة كارثى لعوّاد قدير، سقط منه الزمن الموسيقى، جاء الفرداش غير منضبط فى سرعته، قصرا وطولا، صعودا وهبوطا، فى اللحظة التى التقت فيها عيناهما. كأنها تعمدت الاختفاء بين الجمهور، لكن العيون تقابلت، ارتبك، إختل ميزان الزمن لديه، صارت الريشة فى يده فى مهب ريح، تعبث بها دون حياء، إختل زمن الفرداش، فاختل زمن الجملة الموسيقية، استدرك خطأه قبل أن يختل كل اللحن، وأعاد الفرداش، لكنه أبى أن ينضبط، أعاده مره أخرى فأبى، توقف عن العزف، نهض، أشار إلى الجمهور حيا الجمهور بإيماءة من رأسه وغادر، قبل أن يترك المسرح، تقابلت عيونهما، كانت تنظر إليه بشماته، وفى وجهها بعض ابتسامة، سقط الزمن من يدك أيها العابث. خرج من المسرح، ليلة شديدة الصقيع، غطى رقبته بياقة معطفه، وحضن عوده، وفضل العودة الى بيته ماشيا، ولأن لا أحد فى انتظاره غير قطة، وطائر جلبه من رحلة الى سيرلانكا، لم يعد إلى بيته، جلس على مقعد حجرى فى رصيف الشارع، وراءه المسرح، وضوء خاف يأتى من مصباح بابه، تلتف حول نوره فراشات تسعى إلى حتفها. دون اكتراث، يدخن سيجارة، يتأمل العود بين يديه، يبحث عن الزمن المختل بين أجزائه، يفتش فى مفاتيحه الستة، ويطمئن لعدم ارتخاء الأوتار، بين المفاتيح وفرس العود، وخلو قصعته من الشروخ، وسلامة فتحة الشمس وفتحتى القمر فيه، حتى الرقمة تفحصها، تقى وجه العود من شراسة ضربات ريشته، عندما تشتغل الأصابع والأوتار، فى عزف شجى، لا ينتشى إلا عندما يسمع من الجمهور.. الله. ألقى ما تبقى من سيجارته، فى بقية مطر الأمس، أيقن أن العيب فى العوّاد وليس العود، فلماذا جاءت بعد غياب، تجلس بين الجمهور، شبه متخفية بكوفية، تقى رقبتها المرمرية صقيع ليلة، أبرد من قلب عاهرة، وقلب قاتل مأجور، ومن عين سمكة، تجمدت تحت ثلوج القطب الشمالى، مر عليها الاوسكيمى، إلتقطها برأس حربته، ووضعه فى جرابه كى يطعم القبيلة، ليلة أبرد من عود اختل زمن فرداشه، فسكنت أوتاره، كما سكون الليل فى أغنية فيروز، وفى ثوب السكون تختفى الأقدار. فى صباه، حذره مدرس الموسيقى، من العبث بزمن الفرداش، هو مكر العود وسحره، هو الخفة تضرب الوتر، فتجعله مثل أنثى، خف عقلها وقلبها، تجردت من ملابسها، وفكت ضفائرها ورقصت، وهو المباغت الذى ينقض على الوتر، كثعلب يترصد نعجات كهل أرهقه الزمن. شعر بدفئ يجلس بجواره، لم ينظر، فالمقعد يتسع لشخصين، وهو مقعد البلدية، الكل يتشارك فيه مثل عاهرة، لكنه عطرها، ورائحة تبغها، وذلك الخاتم فى أصبعها، أهداه لها من أجر حفلة، لكنه لا يذكر كيف صرف أجر أول حفلة، ربما راح لعاهرة، لم ينظر إلى الدفء الساكن جواره، نظر الى عوده بين ذراعيه، وهم بالنهوض، منعته يدها، استكان ظهر يده لأصابعها، شبكتها بين أصابعه، داعبت جسد الريشة الصلب اللدن، حملت كفه برقة موجعة، سلمت ريشته وأصابعه لأوتار العود، حركت كفه وأصابعه صعودا وهبوطا، أحس بالدماء تعود إلى يده الباردة، بادئا من وتر الري، تتحرك أصابعه، يعود كفها من حيث أتى، تاركة ريشته تلعب بالأوتار كبهلوان، يثيره عطرها الممتزج برائحة تبغها، يعزف مقطوعتها المحببة من مقام النهاوند، يسمع وقع كعب حذائها على الرصيف، كعادتها عندما تلتحم روحها مع نغمات عوده، ينظر إلى عينيها، يعرف أنه أصابها فى مكمن عفة روحها، ستتحول بعد قليل إلى فراشة، ثم ظبي، يركض مطاردا من كلاب صياد. تطلب منه أن يعزف لحنها مفردشا، تتحرك الريشة بين أصابعه بخفة، صعودا وهبوطا، يإنّ العود كأنثى، أنهكها العبث الجامح فى جسدها، يصل الفرداش إلى أقصى اكتماله، يوقفه، ثم يعود ليضرب الأوتار، فى عناد يليق بعوّاد وصفوه بقناص الأنغام، يتنقل بين وترى الرى والدو، تشتعل الدافئة الجالسة بجواره، تنهض، تخلع كوفيتها ومعطفها، تتركهما بجواره على المقعد، وعلى الرصيف المتسع بين المسرح والشارع، وضوء قادم من باب المسرح القديم، يلتحم بياض جسدها بفستانها الأسود القصير، تبدأ فى الرقص على مقام النهاوند، بخفة راقصة افريقية، يتجمع حولهما الخارجون من المسرح، يشاهدون عواد يجلس على مقعد حجري، فى ليلة شديدة البرودة، وأنثى كفراشة تلف وتدور، وتلف وتدور، وتقترب وتبتعد، وتعلو وتهبط، برقة آسرة، ترقص كما لم يراها ترقص من قبل، بعد أن عبث بها فرداش العواد ، فخف عقلها وجسدها، ليسترد العواد زمن فرداشه.