عصام الصاوى رددت اللحن الذي أحبه وكان اسمها - يصاحب كلماتي ليلا ونهارًا- أشدو به، تسعدني حروفه، كأنما هي حالة مغناطيسية، زوجتي دندنت كلماتها في أنشودة راقصة استمرت شهور السنة، وكانت أغنية غناها الشباب في كل العصور، أنا أنادي أسمها، وهي تدندن لحن حواء. عندما توقفت الدندنة التي كانت تشجيني، حاولت أن يدوم عزفنا إلي الأبد، لما سكتت لم يكن هناك الصمت، بل انقلبت الدندنة فأصبحت ذبذبة، صوتها كموج البحر يستمر دوما أو قد يسود السكون، تماما كذبذبات زوجتي صارت لا تهدأ إلا عندما تنام أو تمرض، فإنها تستجدي العطف والاهتمام، وسرعان ما تحصل عليهما ببساطة حيث أسارع لأرضيها متوقعا تقديرها لما أفعل تركت ذلك نهائيا عندما اكتشفت أن الرصيد كان صفرا دائما في حساب رضاها عني، فربما كانت تدخر ما أفعله في وعاء مثقوب لا يحتفظ بشيء. يوما حلمت بدندنة سمعتها من أعوام خلت، وانزلق الحلم حتي نهايته السعيدة في الصباح وجدت أني عشت سعيدا مع أيام زمان ولابد أن أعيد ولو جزءًا منها، حاولت قدر جهدي، فتغيرت ذبذباتها لكن لم تصل إلي المستوي الجميل، وشاب صوتها الطلبات الناقصة والملاحظات الحرجة، علاوة علي انتقاد ما حولها من بشر وحيوانات وأدوات وأفلام ومسلسلات، ثم عادت إلي سابق قوتها التي عهدتها بعد سنة من الزواج، وإذا صح اكتشافي المبهر أن الكلمات ذبذبات، فإن دندنات زوجتي الصادرة من أعماق تفكيرها تغيرت فإن المصدر قد تغير حاله إلي ما أعيشه هذه الأيام في استقبال موجاتها العالية والمنخفضة فتبدد حلمي الذي عشته لحظات أتمتع بدندنة قديمة. لم يكن هناك حل إلا أن أضع السماعات التي يستخدمها الفنانون عند تسجيل أغانيهم، طوقت رأسي في إحساس يضايق، لكنه أقل بكثير من تلك التي تسببها ألحانها الدائمة، ثم انحسر شعوري لتبقي وتتعاظم الراحة المطلقة بدون الذبذبات إياها، أوصلت سماعاتي بأجهزة الراديو والتليفزيون، وتصنعت الاهتمام بموجات الإعلام في أنحاء العالم، ولكي تلفت نظري إلي إرسالها الحالي كانت تقف أمامي وتشير إلي السماعات أن أرفعها ولا تتوقف عن الانتقادات والتساؤلات والتهكم علي ما أفعل، هكذا تعايشت في السنتين الثانية والثالثة لتبدأ المرحلة التالية لمغامراتي مع الذبذبات الحياني. ظهر أنه إما أن تكون سماعاتي قد فسدت لأنها أصبحت تسرب صوتها إلي أذني أو أن إرسالها أصبح أشد وأقوي وأكثر فاعلية فصرت أحكمها أكثر، فارتفعت ترددات انفعالاتها، وبدأ الناس ينظرون ويراقبون بمن فيهم الأولاد، وكان ما يحدث مثارًا للأحاديث. علي الشاطئ حيث الهدوء والبحر الممتد بموجاته الرتيبة التي تشابه ذبذباتها ذبذبات حرمنا التي تفوقت هذه المرة، اضطر المصيفون حولنا إلي الهروب إلي «الكبائن»، أو الابتعاد وبعضهم كاد يغرق عندما عبر منطقة الاستحمام وتجاوز البراميل في اتجاه نهاية المياه الاقيلمية، وفي اليوم التالي كان الجميع يتظاهرون بتتبع الموسيقي الصادرة من أجهزتهم الصغيرة. فكرت في طريقة ناحجة اتبعها كثيرون باستخدام اليوجا والتركيز علي أشياء وموضوعات أخري كي اتفادي الازعاج، إلا أن ذلك جعل زوجتي تتهمني أني لا أصغي إليها جيدا عندما تتحدث، وهي تفعل ذلك طول الوقت لا تراعي وقت الأكل أو النوم أو الحمام، لكني أكدت أني أتابع ذبذباتها وأنه لا يجب بالضرورة أن استمر في النظر إلي عينيها أثناء حديثها، فلم تقتنع وظلت ترسل باستمرار. القدر يحمل في طياته الكثير من الأحداث، فأرسل مفاجأة اسعدتني، ليصيب زوجتي عدوي فيروس طائر في الهواء يختص بالسكن في منطقة الحنجرة يلهبها وأحبالها الصوتية، فخرج صوتها قبيحا محشرجا، الطبيب كشف وأوصي بالأدوية والعلاج وأمر أن تمتنع عن الكلام أسبوعا واحدا فقط. يا أرحم الراحمين رحمتك وسعت كل شيء. ظهر علي وجهي الانزعاج الشديد، طبعا وضعت هذا القناع حتي ترضي عني وتستريح أني أهتم بأحبالها الصوتية، وأن لا حياة لي بدونها واشتريت الدواء ووضعته إلي جانبها وناولتها منه، ويجب أن أعترف أنه مرات أكثر كنت أحاول أن أنسيها إياه. لابد أن أسجل أنه مضت سنوات كثيرة لم أتمتع بمثل هذا السكون والسلام والراحة، أبعدت عني جميع محدثات الأصوات في منزلي، واستغنيت عن سماعاتي واليوجا أيضا، وسمعت صوتي عندما تكلمت وكان واضحا قويا، ذبذباته أعجبتني حتي أني كنت أتعمد أن أسمعها إياها، وأري تعبيرات وجهها وتقلصاته مع إشاراتها التي ترسلها بيديها وأصابعها فرقعة وتصفيقا، أو دقات غاضبة فوق المنضدة أمامها لتلفت نظري أن أسكت. بعد يومين عاودنا زيارة الطبيب الذي نصح باستمرار العلاج وزيادة جرعة الأدوية، فكتبت علي ورقة أمامه أنها لا تطيق، ورد عليها مازحا أنه يجب ألا تصدر أي أصوات حتي نهاية الأسبوع، وسوف يسمح لها أن تواصل الارسال بعد فترة الراحة، فابتسمت وانصرفت سعيدة تحلم بهذا اليوم. - والحزن عندي سنجابي هكذا كانت الفرصة لأرد ما ذقته سنوات من فواجع الذبذبات التي أحاطت بي، كنت أتركها وابتعد عن عينيها ولتجاهد بأي طريقة لكي توصل نداءها لي، ثم تشير بما تطلب، وأتصنع الغباء، فتكتب طلبها في الهواء باصبعها وأتغابي أكثر، وأجهدتها حتي جعلتها تكتشف أنه يجب أن تحتفظ ببعض الأوراق وقلم إلي جوارها، طبعا حدثت بعض المفارقات فوجدت أنها تريد أن تحكي حلما رأته الليلة الماضية، أو أنها تود لو تأتي أمها لزيارتنا حتي تؤدي عنها بعض الأعمال، فالأدوية أصابتها بالهبوط والرغبة في النوم، الطريف أنها عندما كانت تكتب ما تريد أن تقوله كنت أصمم أن أرد كتابة كأنما أنا الذي لا أتكلم، ثم أنطلق إلي موضوعات لا تريدها أسمعها إياها قسرا كما فعلت معي من سنوات عذبتني فيها. المسكينة سمعت وانزوت حائرة في مواجهة طوفان ذبذباتي المنتقمة، زاد عذابها أن الطبيب أطال فترة صمتها عندما تطورت حالتها إلي الأسوأ بسبب الفيروس القوي حماه الله، وحذرها من الكلام وإلا تورمت حنجرتها وتضخمت، فيضطر إلي أن يذبحها ويفتح عنقها ليصل إلي أحبالها الصوتية يداويها بالمشرط. أصفر وجه زوجتي وبلعت لسانها لشهر تال، انطلقت فيه أصول وأجول، أرسل ألحاني حولها من كل مكان بمختلف الترددات، فتضع الوسادة فوق أذنيها، حتي اكتشفت مكان سماعاتي وراحت تسمع الموسيقي والتمثليات وتتابع البرامج، وأنا ذبذباتي هباء لا تصل إليها وكدت أجن.