كتب - بهيج اسماعيل الثورة المصرية قامت أساسًا من أجل العدل بمعناه الواسع متضمنا الحرية والعدالة الاجتماعية.. ولكن تلك المطالب لم تتحقق حتي الآن بالشكل المطلوب إذ إن هنالك حاجزًا منيعا يقف حائلا بين المصريين وبين التطلع إلي المستقبل في جو من الهواء الطلق فمن عاش في ظلم وظلام طوال ثلاثين عاما ليس من السهل أن يتقبل حياة جديدة بين يوم وليلة. لقد خسر المصريون الكثير طوال تلك السنين البائدة لقد خسروا مفهوم الحياة نفسها.. نسوا كيف يعيش الإنسان الحر حياته ويستمتع بها. وكيف كان لهم أن يحيوا تلك الحياة وقد تحولت مصر كلها إلي سرادق كبير يعزي الناس فيه بعضهم بعضا حيث لا يسمع في السرادق سوي صوت القرآن ترحما علي القيم التي ماتت وعلي جماليات الحياة ومنابع السرور التي ابتلعها الظلام الدامس. هناك نوع من العبودية يطلقون عليه «العبودية المختارة» وهي العبودية التي لطول ممارستها تصبح كالطبع أو كالاختيار الذي يعفي فيه الإنسان من المسئولية.. هذا مجرد تشبيه فلنضع الحزن أو «الغم» مكان العبودية لنجد أن «الغم» قد حل محل «الفرح» في وجدان الشعب المصري.. وقد امتد ذلك حتي في حكاياته وفنونه وآدابه متمثلا في الروايات والمسلسلات والمسرحيات وحتي في الفن التشكيلي.. إنه الحزن الجماعي.. والشكوي الجماعية.. وتبادل المواساة. فكما أن بعض الشعوب تدمن الاستعباد كذلك هناك شعوب أخري تدمن الحزن لا لأنها كذلك في طبيعتها ولكن من طول ممارسته.. فالمعروف أن مصر وأن والشخصية المصرية تتميز بالمرح والنكتة والسخرية فأين ذهبت تلك السمات وكيف نستعيدها؟ بداية علينا أن نعترف أن مصر عاشت طوال السنين الماضية في سرادق عزاء كبير فعلا.. إذ كان الموت يطل عليها من كل اتجاه من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية فقد كانت توابيت القتلي والشهداء تتجسد أمامهم علي الشاشات مصحوبة بالدموع والآهات.. وكانت الدماء تملأ الشاشات آتية من العراق وفلسطين يوميا علاوة علي حوادث مصر نفسها الداخلية بداية من «العبارة» و«القطامية» والقطارات وحوادث السيارات اليومية وهكذا.. حتي أصبح الموت زائرا مقيما لديهم في البيوت.. بينما اختفت الحياة. وكما أن الحزن صناعة الإنسان والموت نفي له.. فكذلك الحياة صناعة.. فن.. نتعلمه كما نتعلم الحزن.. لكننا من طوال هجره نسيناه.. فهل لهذا الشعب المصري العظيم أن يقوم بثورة أخري يعيد إلينا فيها مفهوم الحياة الحياة! أعني حيوية الحياة؟ نعم.. نحن في حاجة إلي تعلم الحياة من جديد.. تماما كأي إنسان فقد ذاكرته ثم عادت إليه لكنه في حاجة إلي استعادة ما كان قد فقده تدريجيا. بداية علي الدولة تيسير سبل الحياة للأفراد حتي لا تصبح «معاناة» وحتي تعود إليهم الابتسامة ويصبح للأمل مكان في نفوسهم.. وذلك بفتح نوافذ المستقبل أمامهم.. ولعل أهم مشكلة هي مشكلة البطالة.. فالبطالة اليوم تعني جلوس ملايين الشبان علي المقاهي ينتحرون بتدخين الشيشة ليل نهار علاوة علي التفكير العدواني ضد الدولة كما يعني في المقابل جلوس ملايين الفتيات في البيوت أو في العمل «عانسات» محرومات ربما للأبد من الأمومة علي الأقل! ثم أين ذهب الجمال من الشارع المصري؟ أين ذهب الاهتمام بجماليات الشارع بداية من تصفيف الأشجار وإزالة القمامة وتحديد أماكن لوقوف عربات الميكروباص التي ترتع حيثما شاءت ثم ألا يمكن تحديد أعداد هذه الحشرة القميئة المسماة «التوك توك» والتي هي رمز للتخلف في كل الدول التي تستخدمها؟ إن جمال الشارع ينعكس بدوره علي جمال العين التي تراه ويتحول تدريجيا إلي جمال داخلي داخل النفوس يؤثر علي السلوك وعلي الأخلاق.. والعكس بالطبع صحيح. ثم لماذا لا تدرس تلك الجماليات في المدارس مع أطفال المرحلة الأولي حتي يشب فيما بعد جميلا من داخله؟ لماذا لا تدخل تربويا في أناشيدهم بل لماذا لا تنتقل إلي أغاني الكبار أيضًا بدلا من أغاني الشكوي والتنهدات والحسرات التي تمتلئ بها كاسيتا عربات الأجرة.. أم أن أحدًا من المسئولين لم يسمعها؟ أين موسيقي الشوارع العسكرية التي تخرج في المناسبات بل أين تلك المناسبات والأفراح الشعبية والأعياد التي تجدد للشعوب حياتها وحيويتها. إن الحياة هي المنحة الأولي والأخيرة والوحيدة المتاحة للإنسان علي الأرض.. فإذا لم يحيها أصبحت سجنا كئيبا أو نوعا من الانتحار. إن الرئيس المخلوع وبطانته ومعارفه والمقربين قد عرفوا تلك الحياة الجميلة.. وقصروها علي أنفسهم فعاشوا أفراحهم الخاصة في الفلل والقصور والمنتجعات وحرموا بقية المصريين من تلك الفرحة حتي لا يذوقوها فيطالبوا بها علي الدوام.. عاشوا هم في قصورهم وتركوا الشعب يتخبط في القبور وفي العشش المظلمة. أليس من العدل إذن أن يحاكموا وأن يجربوا ظلمة السجون قصاصا عدلاً؟ أيها الشباب.. يا من فاجأتم العالم بثورتكم السلمية ورفضتم القتل.. علموا أهلكم كيف يعيشون.. وكيف يفرحون.. فالحياة تفرح بأهلها وتكشف لهم عن جمالها الخبيء حين يحبونها.. فتحبهم. أيها المصريون.. أحبوا الحياة.. فقد حزنتم طويلا ومن حقكم أن تفرحوا ولو قليلاً.