في السعي الحالي نحو إقامة دولة مصرية مدنية حقيقية، تجدر معرفة وإدراك مفهوم وأسس المجتمع المدني، وهو ما يشرحه أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة بنغازي صالح السنوسي في كتابه "إشكالية المجتمع المدني العربي..العصبة والسلطة والغرب" الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، الذي يتناول نشأة المجتمع المدني وفترات قوته وضعفه وعواملها، في محاولة لاستقراء المستقبل من خلال الفهم العميق لأهمية المجتمع المدني وتأثيره وذلك بالمقارنة بنظيره في الغرب. يقدم السنوسي دراسته في أربعة فصول وتسعة مباحث، يبدأهم بمقدمة يوضح فيها أن المدينة اليونانية هي الحاضنة لظاهرتي المجتمع السياسي والمجتمع المدني، قام التمييز بينهما علي معيار المصلحة، فالجماعة هي الأهم والفرد المهتم بشئونه الخاصة هو غير منتم للمدينة، أما من يعمل من أجل المصلحة العامة فهو "المواطن". هذا المعيار غير الواضح أدي إلي خلاف حول مفهوم المجتمع المدني قام علي رؤيتين، الأولي هي ذات بعد سياسي نتيجة لربط وجشود المجتمع المدني بالدولة التي يستمد شرعيته منها، الثانية ذات بعد اقتصادي حيث يتشكل المجتمع المدني من تقسيم العمل، تبادل المنافع وينظمه السوق. يبدأ الفصل الأول "نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الغرب" الذي ينقسم إلي مبحثين، الأول " المبررات السياسية لنشأة المجتمع المدني في الغرب"، الذي يؤكد فيه أن "المدينة" هي المرجعية العليا للفكر السياسي اليوناني القديم، وانقسم المجتمع لمجتمع سياسي مهتم بالمصلحة العامة، والمجتمع اللاسياسي والمهتم بمصلحته الشخصية وهم غير المنتمين للمدينة. مع تطور الوضع السياسي للإمبراطورية الرومانية التي ربط فيها الفيلسوف شيشرون في الفكر السياسي الروماني مابين العقل والدولة والعدالة، ثم مع دخول الفكر الديني المسيحي الذي أوجد ثنائية الدين والسياسة، أصبح هناك مجتمعان، الأول غايته خيرات المدينة الأرضية والثاني غايته نعم المدينة السماوية، إلي أن جاء المفكر توما الإكويني ليرد للسياسة اعتبارها الأرسطي في أنها ثمرة العقل الإنساني، ومعه فصل مارتن لوثر بين الكنيسة والدولة إلا أن الاقتصاد الزراعي في تلك الفترة كان مفككا. وينتهي المبحث الأول حتي قيام الثورة الفرنسية والتي بعدها دخل الاقتصاد كأساس لنشوء مفهوم المجتمع المدني، وهو عنوان المبحث الثاني الذي يكثف المفهوم في تكوينه علي مرحلتين، الأولي هي الخروج من العصور الوسطي وتحلل أنظمتها، والتي امتدت من منتصف القرن السادس عشر حتي القرن الثامن عشر، المرحلة الثانية هي عصر الثورات الاجتماعية والتي تعد الثورة الفرنسية هي أكبر أمثلتها، حيث قامت علي إلغاء الامتيازات الاجتماعية وإرساء مبدأ المساواة السياسية. ثم يأتي فيما بعد آدم سميث الذي أسس المجتمع المدني علي أساس الحاجات المتبادلة بين أعضائه، معتبرا معيار تقسيم العمل والسوق هو الذي يحدد معني المجتمع المدني. " معوقات نشأة المجتمع العربي" عنوان الفصل الثاني وجاء مبحثه الأول "البنية الاجتماعية" ليبحث في اختلاف طبيعة الفرد العربي الذي تجاذبته منذ البداية العصبية بكل أشكالها، الدولة ثم المجتمع المدني، فكانت العقبة الاجتماعية الأولي أمام المجتمع المدني هي طبيعة العلاقة بين نشأة الدولة والعصبة متخذا من الدولة العربية القُطرية نموذجا، الثانية هي أزمة علاقة دولة العصبة بالفرد وفيها تتضح مواجهة الفرد العربي مع مؤسسة الدولة التي بدت له أكثر تعقيدا من مؤسسة القبيلة، كذلك تناقضت مع مفهوم الأمة العربية القائم علي الانتماء القبلي أو العقائدي. العقبة الثالثة هي أزمة علاقة دولة العصبة بالمجتمع المدني شارحا اشتراك الأنظمة السياسية العربية في احتكار المجال السياسي والهيمنة علي مقدرات الدولة، تغير مدلول المصلحة العامة، طغيان مفهوم العصبة علي مفهوم المجتمع المدني. في المبحث الثاني يناقش " البنية الثقافية والبنية السياسية" الذي يخلص فيها إلي الصدام الثقافي الغربي والعربي، فالعربي يعظم من شأن الأعراق بالتالي تنعدم المساواة، كما يعمل بمنطق المجتمع الأهلي القائم علي الإنتاج المرتبط بالإنتاج الصغير العائلي للاكتفاء الذاتي وعوامل أخري أدت لالتباس مفهوم الدولة في الفكر السياسي العربي والإسلامي. " منظمات المجتمع المدني العربية بين عجز المجتمع واستبدادية السلطة" هو الفصل الثالث الذي يناقشه السنوسي من خلال ثلاثة مباحث هي علي التوالي " ثقافة العجز" الذي يرجع للقصور في فاعلية الأغلبية في المجتمع العربي، " استرقاق السلطة للمجتمع" وهي علاقة شبهها بعلاقة العبد بسيده، أخيرا " احتكار السلطة للحراك الاجتماعي" والتي نتجت عن غياب روح العمل الجماعي الذي عظم من استبداد السلطة والتي أجبرت حتي حركات المعارضة علي الاندماج في مشاريعها السلطوية. الفصل الرابع والأخير " منظمات المجتمع المدني وإشكالية العامل الخارجي" الذي يستعرض في المبحث الأول منه " المجتمع المدني بين عسف السلطة ومقايضات القوي الخارجية" موضحا الحركات والهيئات المدنية في تعاملها مع أمريكا واصطدامها مع السلطة العربية المهيمنة والمستبدة، في مبحثه الثاني " أثر تراجع العامل الخارجي علي حركة المجتمع المدني" والناتج عن ردود الفعل العنيفة من قبل السلطة من حيث الاعتقالات وحالات الاستنفار الأمني وغيرها من عوامل أدت إلي خلل المنظومة وصراع مستمر مع السلطة المستبدة.