لاشك أننا في مرحلة مهمة من تأكيد ممارسة حقوق الإنسان المصري السياسية وخاصة في انتخابات مجلس الشعب الذي يستمد أهميته من دوره باعتباره السلطة التشريعية التي تصدر القوانين التي تنظم العلاقات بين الأفراد, أي تنظيم مجتمع الدولة. ولذلك فإن كلا منا يبتغي التعرف علي أفضل أشكال تنظيم مجتمع الدولة الذي نعيش فيه. ومن خلال الحديث عن سبيل تنظيم المجتمع نجد منهجين رئيسيين. المنهج الأول هو المجتمع المدني. والمنهج الثاني هو المجتمع الديني. ومن الخطأ أن يتصور البعض أن كلا المفهومين يحمل ذات المعني. ومن الخطأ أيضا الفصل بينهما بشكل كلي. وسأحاول من خلال هذه السطور القليلة توضيح كليهما ونقاط الالتقاء بينهما. وإذا وضعت في الاعتبار ان الحديث عن قضية الخلاف بين المجتمع المدني والمجتمع الديني قضية شائكة الي أبعد مدي, والسبب في صعوبة هذه القضية هو أن الاقتراب من المجتمع المدني يؤدي إلي توجيه بعض الاتهامات من الجماعات الدينية التي تجعل الدين منهجا لها بشكل مصمت لا يقبل الحوار, ويتداخل في أذهان البعض مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الدول الغربية ظنا أنها تقوم علي أساس تقليص القيم الدينية. علي الجانب الآخر فإن تفضيل المجتمع المدني لإدارة الدولة هو أمر أكثر خطورة, وتنبع خطورته من تعدد الديانات داخل الدولة ولنا أن نتصور مخاوف الأقليات الدينية من قيام الدولة علي أساس ديني. وما قد يواجهه مصيرهم من جراء ذلك, وتزداد هذه الإشكالية أهمية وتتعاظم خطورته عندما نفكر فيها من منطلق أمكانية التطبيق علي مستوي دول العالم أجمع, مدركين أن القضايا التي تواجه أي دولة اليوم لا يمكن أن نبحث عن حولها استقلالا وانفصالا عن سائر الدول الأخري, وهو ما يعني أعطاء الحق للدول الأخري أن تقيم مجتمعها علي أساس ديني, ولنا أن نتصور قيام دولة ما علي أسس مسيحية كاملة ودولة أخري علي أسس يهودية مطلقة, وحال الحديث عن الدين لابد من إدراك أن الأمر لا يقتصر علي هذه الديانات الثلاث فقط بل إن العالم يحتوي علي العديد من الديانات الأخري, ويكون لها الحق أيضا في إقامة دول وفقا لما تختاره من دين وعقيدة. وإن كان الحديث عن المجتمع المدني والمجتمع الديني هو أحد موضوعات الحاضر التي نحاول حسمها لتحديد خطط المستقبل وتوجهاته, فعلينا أن ندرك أن أفضل سبل معالجة قضايا الحاضر هو تحليل خبرات الماضي والاستفادة من تجاربه.فالماضي يزخر بالعديد من التجارب المشابهة لقضايا اليوم, ومن ضمنها قضية المجتمع المدني والمجتمع الديني, فالدولة القديمة لم تنشأ علي أسس مدنية بل إن الأساس في قيام الدولة القديمة كان هو الأساس الديني, حيث كان الملوك قديما يحكمون علي أساس الدين, ولم يكن حكم الدين منظما لشئون دولة واحدة فقط بل كافة الدول, وفي الواقع ما نريد تأكيده في هذه المرحلة هو طبيعة العلاقات بين الرعايا وبين الملك الذي يحكمهم علي أساس الدين. بداية الحكم علي أساس الدين يجعل السلطة العليا للدولة تستمد قوتها من الدين ذاته, ولا تستمد مشروعيتها من رضا وقبول الرعايا, كما أن الفكرة التي تسيطر علي الذهن حال قيام الدولة الدينية تعني أن قبول تعليمات القيادة السياسية للدولة تعني تنفيذا لتعليمات الدين, وهو أمر لا يقبل المناقشة ولا يقبل الحوار, وعلي الجانب الأخر فإن الحديث عن وجود مجموعات معارضة للسلطة الدينية داخل الدولة لن يكون معارضة لسلطات بشر, وإنما تكون معارضة لتعاليم الدين, فالفرض الأساسي لهذه الدولة يكون أنها تنفذ تعاليم الدين, وهذا الفرض لا يخضع لجدل أو نقاش من قبل المحكومين. لا مبالغة في أن الأصل في الأمور هو قيام فكرة الديمقراطية علي أساس إحلال مصطلح( المجتمع المدني) محل( المجتمع الديني), فالديمقراطية تتطلب محاربة أي أساس من أسس التمييز, وأهمها التمييز بين الأفراد علي أساس الديانة أو العقيدة, والمجتمع الديني يميز بين الأشخاص بإعطاء بعض المزايا للأفراد علي أساس الديانة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع, وعلي هذا النحو فلا مجال للحديث عن الديمقراطية أو المساواة بين الديانات في ظل المجتمع الديني. ويبقي التساؤل: ما هو موقع الدين في كلا المجتمعين( المجتمع الديني) و( المجتمع المدني)؟ لا جدال في أن موقع الدين يختلف في كلا المجتمعين, ولكن, ما هي طبيعة الاختلاف بين نظرة المجتمع المدني للدين, ونظرة المجتمع الديني للدين ؟ الخلاف الأساسي بين كلا المجتمعين يكمن في( سلطة الرقابة الدينية), فالمجتمع المدني ينظر الي أن الرقابة الدينية علي أنها تكون لله علي الأفراد البالغين وللأسرة علي أطفالها, ولا رقابة علي ممارسات الدين أو مخالفة احكامه من قبل سلطات الدولة, فالعلاقة الدينية في النهاية علاقة تربط بين الفرد وربه. أما نظرة المجتمع الديني للدين فتختلف من حيث سلطة الدولة في الرقابة علي الممارسات الدينية للأفراد, فالأصل في المجتمع الديني أن تنتهج الدولة دينا واحدا, وتلزم الأفراد المقيمين فيها بكافة أحكامه وضوابطه بنوع من الالتزامات الجبرية, ويكون لسلطات الدولة حق الرقابة والإشراف علي ذلك, ولا تعتبر الدين علاقة تربط الفرد بربه بل تنظر إلي الدين كممارسات واجبة علي الفرد يجب علي الدولة مراقبتها ومتابعة أدائها من جانب الفرد. وعلي ذلك فالدولة المدنية تحمي كافة الديانات الموجودة بداخلها أما الدولة الدينية فتحمي دينا واحدا وتفضله علي سائر الديانات الأخري, وهنا يثار تساؤل: ما هي الحماية التي يجب أن توفرها الدولة المدنية لممارسة الحريات الدينية؟ في الحقيقة إن الدولة المدنية تكون مسئولة أمام مواطنيها عن كفالة حرية ممارستهم لدياناتهم وإقامة الشعائر الخاصة بكافة الديانات علي أساس المساواة, والحريات الدينية التي تحميها الدولة المدنية هي حرية ممارسة العبادة وعقد الاجتماعات المتصلة بالدين والعقيدة وضمان إقامة الأماكن الخاصة لهذه الأعراض وحمايتها, وحرية إقامة المؤسسات الخيرية والإنسانية المنبثقة عن العقائد والديانات, وحرية صناعة واقتناء واستعمال الأدوات والمواد الضرورية لممارسة الطقوس الدينية, وذلك وفقا للحد المناسب, وحرية إصدار وتوزيع وكتابة الوثائق اللازمة لنشر الديانات, وحرية تعليم الدين في الأماكن المناسبة, وحرية الاتصال مع الأفراد بشأن الأمور الدينية علي المستوي الدولي والوطني, وحرية طلب أو قبول التبرعات المادية وغير المادية من المؤسسات والأفراد ذات الصلة بالأمور الدينية, وضمان السماح للأشخاص بالراحة والإجازات أثناء أيام الاحتفالات الدينية, وحرية تعيين أو انتخاب القيادات الدينية الملائمة وفقا لما تستلزمه المعايير الخاصة بكل عقيدة أو دين. والملاحظة الأساسية من قراءة الحريات الدينية السابقة والتي تكفلها كافة الدول التي تقوم علي أساس فكرة المجتمع المدني هي أنها لا تقرر حماية دين بذاته وإنما هي حقوق وحريات مقررة لكافة الديانات, ولا تبتغي إلا حماية الإنسان ورأيه الخاص به وقناعته الشخصية ومعتقده أيا كان هذا المعتقد حقا أم باطلا صوابا أم خطأ فهو يسأل عنه أمام الله عزوجل, ولا مجال لتقييد حريته ما دامت لا تؤثر علي احترام حريات الآخرين. أري أن التشبث بفرض إحدي الديانات بمنطق القوة أو المطالبة بحماية أي من الديانات من جانب سلطات الدول, هي دلالة علي ضعف مضمون هذا الدين, وهو ما لا يتفق مع ديانتنا الإسلامية, فنحن أعلم بقوتها, ومدي ثراء جوهرها, وعمق مضمونها, ولو أردنا للإسلام الرقي والعلو حقا فعلينا أن ندعم مفهوم المجتمع المدني الذي يثري الدين علي أسس ثقافية وتربوية في دول العالم أجمع, وليس علي أسس فرض السلطة أو الأمر والنهي, كما يجب أن نتحرك من منطلق ثقافة الحوار مع الجميع, وقبول الآخر مهما كانت رؤيته أو أفكاره. وعلينا أن نؤمن أن عبارة, فصل الدين عن السياسة, لا يقصد منها هجر الدين, وإنما يقصد منها إعلاء شأن الدين وقيمته, فالسياسة تقبل الاختلاف وترتقي بالمعارضة والانتقاد, وهي ممارسات يفضل أن تظل بعيدا عن الدين تقديسا لمضمونه, ولكن في النهاية لا يسن قانون مخالف لمبدأ ديني, فمثلا مصر دولة مسلمة نشأ دستورها علي أسس أحكام الديانة الإسلامية, ولا يحتوي الدستور المصري علي نص واحد مخالف للشريعة الإسلامية, ويمثل موقعها وقوتها ومواقفها علي المستولي الدولي حصنا منيعا للإسلام, حال الاعتداء عليه, ولكن هذا لا يعني أن يقوم برنامج حزبي علي أساس الدين, فلابد من التفرقة بين السياسة وممارستها وهي ما يجب أن تبتعد عن الدين, وبين القانون والدستور ومرجعيته وهو ما يجب أن يتفق مع أحكام الدين.