لا أعلم لماذا تذكرت اليوم هذه القصة التي قرأتها في سن الثامنة أو التاسعة عشر في ترجمتها الألمانية من الأصل الروسي القصة المعنية هي للكاتب الذي ذاع صيته سنة 1956 ثم اختفي عن الأنظار إلي أن جاءت إلي روسيا الفترة التي عرفت باسم «روسترويكا» في عهد «جورباتشوف» ألا وهو «فلاديمير دادنتشاف» وهو روسي من مواليد أوكرانيا. حداثة سني بالإضافة إلي حماس الشباب وتجربتي المؤلمة في مصر كطفل عاش تأميم قناة السويس والاعتداء الثلاثي ووقوف الاتحاد السوفيتي إلي جانب زعيمنا الخالد جمال عبدالناصر بالإضافة إلي قبل ذلك صفقة الأسلحة «التشيكسلوفاكية» جعلتني أؤمن بالاشتراكية أضف إلي ذلك وجودي بين زملائي الطلاب الألمان والفرنسيين وكنا جميعا تحت تأثير شخصية «تشي جيفارا» المناضل والروح الشاعرية للثورة ضد الرأسمالية الغربية التي استعبدت الإنسان ليس فقط في العالم الثالث ولكن حتي في أوروبا كل ذلك جعلني علي وشك التطور من الاشترااكية إلي اعتناق الشيوعية التي درستها من الناحية النظرية الفلسفية وإلي حد أقل كثيراً من الناحية الاقتصادية وإن كنت لم أكتب عن ذلك بصراحة قبل اليوم لانشغالي بما هو أهم وعدم رغبتي لفتح أبواب جديدة لأعدائي المتحفزين لأي اتهام يلقون به في وجهي كان هناك ربما عاملان وقفا في وجه تطور كامل إلي الشيوعية. أولا نشأتي الدينية في مصر. وثانيا قصة فلاديمير داد نتشاف» ، «المرء لا يحيي علي الخبز فقط» وهي ترجمتي لعنوان الترجمة الألمانية ولذلك لا أعرف بدقة إذا كانت هذه الترجمة مطابقة لعنوان الأصل الروسي أم لا حيث إن معرفتي باللغة الروسية أقل من ضعيفة وتقتصر علي فهم عناوين المقالات العلمية فقط. القصة تسرد تجربة مريرة لمهندس شاب يحب وطنه ويؤمن بالشيوعية يكتشف طريقة هندسية مفيدة للصناعة ولكن البيروقراطية وما يسمي بالروسية «أباراتشك» والغيرة والطعن من الخلف والأنانية والفساد الذي تفشي في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت يمنع الشاب من أن يجني ثمار عمله ولا يمكنه حتي من خدمة وطنه. كنت طالباً في كلية الهندسة في مدينة هنوفر في هذا الوقت وشعرت بنوع من التعاطف مع هذا المهندس المثالي خصوصا لأنني كنت مؤمناً بمصر الثورة والوحدة العربية وزعامة الرئيس جمال عبدالناصر ولكن لم أكن يوما من عشاق الهتافات والتسلق إلي مراكز القيادات الطلابية وأهرب من التجمعات والكتل البشرية وأفضل التفكير المستقل والذاتية. بمعني أصح كان هناك روحان في جسدي أحدهما اشتراكي شبه شيوعي يستمد قوته من الكتل والتفكير الجماعي والجماهير بينما كانت الروح الأخري النقيض علي طول الخط أي ذاتية استقلالية فلسفية روحانية وعلي درجة كبيرة من التدين الكوني وببلوغي سن السابعة والعشرين أو أكثر قليلا كان بلوغي نهاية الطريق مع الاشتراكية والشيوعية الخاصة بي ولكن الحقيقة لم أستطع يوما في حياتي أن أتقبل الفكر الرأسمالي الأمريكي رغم نجاحاته في الميدان في كثير من الأحيان. عدم أخلاقية هذا النظام كان عقبة بالنسبة لي لا يستهان بها لشخص لا يخجل الآن بتاتا من أن يعرف نفسه من خلال مفاهيم بعضها دينية علي أعمق المستويات. من خلال رحلتي التي استغرقت حتي الآن حوالي سبعة عقود أستطيع أن أؤكد أن المرء لا يحيي بالخبز فقط ربما كان مظهر شباب ميدان التحرير من أبناء الطبقة الوسطي وكثير من الطبقة المتيسرة هو الذي دعاني أن أتذكر قصة «فلاديمير دادنتشاف» هذه الشريحة من المجتمع المصري لم تثور لأسباب مادية بحته بأي حال من الأحوال. علي الرغم من ذلك وربما لأن عقليتي أساسا هي عقلية «هجلية» «جدلية» لابد أن أؤكد أن الأشكال للسواد الأعظم من الشعب المصري أن «الخبز» بمعناه الأوسع لا يمكن الحصول عليه بسهولة نعم وبدون أي تحفظ لا يكفي الخبز لكي يعيش الإنسان حياة تليق بكرامة الإنسان، الحرية والمساواة في حدود المعقول هي من أساسيات الحياة ولكن علي الضفة الأخري لا توجد حياة أساساً بدون «خبز». هذه هي جدلية الموقف الحالي في مصر وعلي بساطتها سوف تحدد هذه الجدلية مستقبل انتفاضة شباب مصر هناك أمثلة لثورات لها تشابه بثورة ميدان التحرير وعلي سبيل المثال وليس الحصر ثورة الشعب الفلبيني علي «ماركوس» للأسف لا أعتقد أن هذه الثورة أو شبه ثورة قادت إلي أي تغير حقيقي في الفلبين فعلي الرغم من أن رئيس الفلبين الحالي هو ابن «أكوينس» زعيم الثورة الذي اغتاله نظام «ماركوس» وأين رئيسة الجمهورية السابقة أرملة الزعيم المغتال إلا أن الفلبين مازالت ترضخ تحت الليبرالية الأمريكية الكاذبة ونظامها الرأسمالي الأمريكي المقنع بسراب ديمقراطية سطحية لا تعرف أي شيء عن العدالة الاجتماعية التي مازالت مهددة في الفلبين أملي هو ألا تسير مصر في طريق الفلبين لأنه طريق غير مثمر ويقود إلي سراب لا أكثر ولن يحقق أي حلم من أحلام شباب التحرير ولن يكون أكثر من فترة جديدة للهيمنة الأمريكية علي مصر وربما الشرق الأوسط كله. أرجو ألا يحدث ذلك وأن ينتبه شباب التحرير إلي هذه الخدعة الممكنة وألا يقعوا في الفخ الجديد الذي يزين بكلمات الديمقراطية والرأسمالية الأمريكية الليبرالية.