علق قراء مقالي بالأمس، وكان عنوانه: «حكومة عجوزة.. بلا رؤية»، بأنه كان علي أن أتمهل وأمنح الحكومة فرصة قبل انتقادها.. وأضاف بعضهم: كيف أهاجمها قبل أن تحلف اليمين؟! وفي الرد علي هذا، وهو ما سيكون مدخلي إلي مقال اليوم، أقول: • أولاً: أنا لم أنتقد تصرفات وسياسات الحكومة، فهي لم تتصرف بعد، ولم تعلن سياسة أصلا، بل لا أعتقد أن لديها برامج من الأساس، وإنما حللت تركيبتها المعنلة من الناحيتين العمرية والأيديولوجية.. وقلت إنها «عجوزة سنياً» وتناقض الحركة الشبابية المائجة في الشارع.. وإن تأييد الشباب حكومة بهذا «المعدل العمري» محكوم عليه بالفناء القريب.. كما قلت إنها «غير منسجمة» أيديولوجياً.. فيها أقصي اليسار وأقصي اليمين.. كما لا يبدو أن لرئيس الوزراء تصنيفاً سياسياً معلنا.. ما يعني أن انتقادي انبني علي مواصفات «بنيتها» باعتبار تلك «مقدمات» تقود إلي «نتائج». • ثانياً: في الأوضاع المستقرة،. يمنح البرلمان، وتعطي الصحافة، للحكومة، فرصة مائة يوم، تسمي في العرف الرقابي: «شهر عسل سياسي»، بعدها يبدأ تقييم الحكومة وانتقادها.. ولكن الظروف المصرية الآن ليست مستقرة.. لا فرصة للعسل ولا وقت حتي للبصل.. خصوصاً أنه لا يمكن التيقن من أن هناك حكومة انتقالية سوف تبقي من الأساس لمدة مائة يوم.. بل قد تصل التوقعات إلي أن بعض الحكومات التي سوف تعرفها مصر في الفترة المقبلة لن تقضي نصف هذه المدة.. ناهيك عن أن هناك انتخابات قريبة سوف تزيح أي حكومة فور أن يصل أي رئيس أو حين يتشكل أي برلمان. والأهم، أن وزراء الحكومة الحالية يصنفون إلي ثلاثة أنواع.. فريق ينتمي إلي عصر سابق.. كانوا وما زالوا يعملون.. ولا يحتاجون مزيداً من الفرص.. وفريق ثانٍ أعضاؤه كانوا وزراء سابقين في ذات مواقعهم.. باستثناء رئيس الوزراء الذي لم يكن رئيساً للفريق وكان وزيراً.. وهؤلاء بدورهم لا يمكن منحهم فرصة.. والثالث: فريق من المعارضين الذي عبئوا الدنيا صخباً بأفكار مختلفة طيلة السنوات الماضية حان وقت اختبارها من اللحظة الأولي.. فقد انتقلوا من مقاعد التعليق إلي مقاعد التنفيذ.. والمياه وسوف تكون وسيلة اختبار صدق الغطاس. الميزة الوحيدة في الحكومة الحالية غير مفيدة من الناحية العملية، وإن كانت مفيدة سياسياً، وهي أنها استنت مبدأ الاستعانة بخبرات سابقة، تصدت للعمل العام من قبل. وفيما مضي في عهد الرئيس السابق كان الوزير إذا خرج من موقعه لا يمكن أن يعود مجدداً إلي عمله.. وهو مبدأ لم أكن أفهمه أو أتفهمه علي الإطلاق.. ففي مصر خبرات لا يجب أن ينتهي دورها إلي الأبد فور إبعادها لظرف أو غيره. ما يستوجب التصحيح في مقال الأمس، من الناحيتين الموضوعية والتدقيقية، أنني قلت إنه لم يصدر للحكومة «خطاب تكليف محدد»، واقعياً هذا كلام غير سليم، وعذري أنني كتبت قبل أن تحلف الحكومة اليمين، وقد علمت أن رئيس الوزراء تلقي قائمة مهولة من التكليفات المحددة.. العريضة والتفصيلية، أعانه الله ومن معه عليها، ومصدر هذه التكليفات بالطبع هو «المجلس العسكري الأعلي» حاكم البلد وقائد انتقالها إلي المرحلة التالية. موضوعان جوهريان لا بد من التعليق عليهما اليوم في ضوء هذا التمهيد السابق: الأول: مصدر شرعية الحكومة.. فقد ذهب الدكتور عصام شرف إلي ميدان التحرير، كي يؤكد أن شرعيته آتية منه، ربما كي يسدد ديناً ما إلي من جاورهم في المظاهرات.. غير أنه تجاهل أمرين.. بداية أن مصر لا يمكن اختصارها في ميدان التحرير.. وأن هذا البلد قوامه 85 مليون نسمة لا يمكن بالطبع أن يحتشدوا في الميدان كي يعبروا عن أنفسهم أمام رئيس الوزراء. والثانى: أن الشرعية نابعة أصلاً ممن كلفه بتشكيل الحكومة.. وهو هنا سيادة المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري الأعلي. المحاسبة لن تكون في ميدان التحرير.. وإنما داخل المجلس العسكري.. والرقابة ستكون علي يد قيادات الجيش.. علماً بأن «حالة ميدان التحرير» لم تكن لتستمر لولا أن المجلس العسكري هو الذي سمح لها بذلك. مع الوضع في الاعتبار أن الدكتور عصام شرف لم يحظ فعلاً بصفة رئيس الوزراء الذي من حقه أن يبدأ العمل إلا بعد أن أقسم يمين المهمة أمام السيد المشير. الموضوع الاخر هو تلك التصريحات التي أصدرها رئيس الوزراء ووزير ماليته في يوم أول من أمس، الثاني قبل إتمام تشكيل الحكومة والأول بعد أن أقسم اليمين، ومؤدي هذه التصريحات هو أن الاقتصاد المصري قوي ولديه فرص عديدة وليس صحيحاً أنه في حالة سيئة.. هذا كلام حين يقال في تلك الظروف لا يمكن أبداً أن يمر مرور الكرام. قد أفهم طبعاً أن رئيس الوزراء يريد أن يبث روح الأمل، هذا حقه، وواجبه، وما ينتظر منه، وربما أراد أن يناقض سلفه أحمد شفيق الذي كان قد قال في نهاية أيامة إن الوضع الاقتصادي سيئ جداً. بدون أن يدري فإن عصام شرف منح شفيق نقاطاً إيجابية.. ما دام قد سلمه اقتصاداً قوياً وقادراً كما ادعي شرف.. كما أنه لا يمكن بث روح التفاؤل بهذه الطريقة.. ودون مخاطبة الجمهور أن عليه أن يقوم بما هو ضروري من واجبات.. وأن البلد لا يمكن أن ينطلق اقتصاده دون أن يعود الجميع إلي العمل.. إلا إذا كان رئيس الوزراء يريد بهذا أن يحفز استمرار حالة ميدان التحرير وما حوله من مظاهرات واحتجاجات فئوية مهولة ومتنوعة.. ومعرقلة للعمل. حين يوصف الاقتصاد بأنه قوي فإن علي رئيس الوزراء ووزير ماليته أن يقولا كلاماً واضحاً محدداً كي نقتنع.. وحتي لا يكون هذا مجرد تصريحات في الهواء الطلق يجب عليه مثلاً أن يعلن: ما حجم السحب من الاحتياطي النقدي خلال الشهر الماضي؟ كم خسرنا وكيف سنعوض؟ ما احتمالات النمو.. ومعدلاته التي يعد بها رئيس الوزراء؟ وكيف سيكون ذلك؟ ما نسبة عجز الموازنة؟ وهل وصلت إلي حدود الخطر؟ كيف سيحل مشكلة البطالة ولو جزئياً خلال المدة المتبقية من عمر حكومته؟ ما حجم الاستثمارات الأجنبية والعربية التي خرجت من مصر؟ وبماذا يعد رئيس الوزراء لاستعادتها؟ ناهينا عن موقف رؤوس الأموال الوطنية النظيفة المعطلة. هذا هو الكلام الذي يمكن علي أساسه، وبه، الحكم بأن الاقتصاد قوي وقادر. بخلاف ذلك يكون رئيس الوزراء غير مهتم بمدلولات التصريحات.. ومعانيها. لا أقصد من هذا أن أحبط الهمم وأن أثبط الأماني أو أجهض الأحلام.. خصوصاً أن كثيراً من التعليقات الغربية تشير إلي احتمالات واعدة لمستقبل مصر.. وتؤكد هذا حتي قبل أن يأتي رئيس الوزراء الجديد.. ولكن هذه الاحتمالات لن تتحقق بالكلام وإنما بالإعلان عن برامج محددة ومن خلال أفكار صريحة يمكن أن نحاسب عنها الحكومة.. وخطط معلنة نسائلها بمقتضاها.. وهذا أيضاً من بين أبرز مقومات الشرعية. [email protected] www.abkamal.net