وُلِد فضيلة الإمام الشيخ محمد بن سالم الحفنى الشافعى الخلوتى الحسينى سنة 1100ه - 1689م، ببلدة «حفنا» من قرى بلبيس محافظة الشرقيَّة، وتولَّى منصب مشيخة الأزهر سنة 1171ه - 1757م، واستمرَّ شيخًا للأزهر مدَّة عشر سنوات. قال عنه الجبرتي: «كان - رحمه الله - قطب رحَى الدِّيار المصريَّة»، ولا يتمُّ أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطِّلاعه وإذنه».
وكعادة أهل القرية أنْ يذهب الصبى إلى الكُتَّاب لحِفظ القُرآن الكريم، وقد كان فى بيئةٍ صالحة، ونبته نبتًا طيبًا، وفى الرابعة عشرة من عُمره وفد للقاهرة وأكمل تعليمَه بالأزهر، وأخذ العلم عن أشهر علمائها، واجتهد حتى أصبح أمهرَ طلاب عصره وأقرأهم، ودرس وأفاد فى حضرة مشايخه، وأجازوه بالإفتاء والتدريس، ومن أشهر مشايخه العلامة الشيخ محمد البديرنى الدمياطي، الشهير بابن «الميت»، أخذ عنه التفسير والحديث، و«إحياء علوم الدين»؛ للغزالي، والكتب الستَّة، والمعاجم الثلاثة «الكبير والأوسط والصغير»؛ للطبراني، و«صحيح ابن حيان»، و«المستدرك»؛ للنيسابوري، و«حلية الأولياء»؛ لأبى نُعيم، وقد حاز الشيخ الإمام محمد الحفنى على ثقافةٍ واسعة، وصقلته التجارب العديدة، وزكَّته الصوفيَّة السامية، واجتمعت فيه عناصر التوفيق كلها، وقلَّما تجتمع فى إنسانٍ إلا إذا لاحظته العناية الربانيَّة، فهو شريف حسينى من جهة أمِّ أبيه السيدة ترك بنت السيد سالم بن محمد بن على بن أبى طالب، وهذه ميزة تُذكَر للشيخ «الحفني»، وتُوضَع على رأس مَزاياه، فإنَّ الانتساب للإمام الحسينى انتسابٌ لجدِّه سيد المرسلين محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو شرفٌ لصاحبه فى الدنيا والآخِرة، وكان الانتساب للرسول - عليه الصلاة والسلام - فى هذا الزمن يلزمُ صاحبه بالتمسُّك بسنَّته الشريفة، والالتزام بتقوى الله، ليتَّفق هذا مع شرَف نسبه الكريم.
وكما ذكرنا أنَّه حفظ القُرآن الكريم حتى سورة الشعراء، وله من العمر أربع عشرة سنة، وبناءً على نصيحة الشيخ البشبيشي؛ حيث أتَمَّ حفظ «ألفية بن مالك» فى النحو والصرف، و«السلم»، و«الجوهرة»، و«الرحبية»، و«أبى شجاع»... وغيرها من المتون.
وفى الثانية والعشرين من عمره كان قد تبحَّر فى علوم النحو والفقه والمنطق والحديث والأصول وعلم الكلام، وبرع فى العروض، وظهرت مواهبه الأدبيَّة فى الشعر وفنونه - بالفصحى والعامية - كما ظهرت براعته فى النثر طبقًا للأسلوب السائد فى عصره، فأذن له مشايخه وأجازوه بالإفتاء والتدريس فى هذه السِّنِّ المبكِّرة، وأمَّا تجاربه العديدة التى مرَّ بها فى بداية حياته فإنَّه ذاق مَرارة الفقر فلم تذلَّه قلة اليد، ثم ذاق حلاوة الغنى فلم تبطره الثروة ولا الغِنَى، بل كان قمَّةً فى العطاء والسخاء، وعلى الرغم من مَناصبه العديدة، ووصوله إلى أعلى المناصب وذروة المجد، إلا أنَّه كان متواضعًا، جمَّ الحياء، كريم النفس، رحبَ الصدر، متمسكًا بالخلق وبالمروءة والوفاء، وله هيبة ووقار، لا يكاد أحدٌ يسأله لمهابته وجلالته، فهو مَهِيب الشكل، عظيم اللحية أبيضها، وكأنَّ على وجهه قنديل نور.
وكان دائم الإصغاء لكلِّ مَن يُحدِّثه ولو تحدَّث معه بالخُزَعبِلات، فكان يتبسَّط مع محدِّثه، وقد ترجم «الجبرتي» عن حياته فى يومياته ترجمةً مستفيضة استغرقت ست عشرة صفحة من القطع الكبير، وكما ذكرنا آنفًا أنَّه كان فقيرًا فى بداية حياته، فكان ينسخُ بعض الكتب، وكان ذلك يُكلِّفه الجهد والوقت، ونتيجةً لتقواه وورعه وتعلُّقه بحبِّ الله - سبحانه وتعالى - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].
آثاره العلمية وتأثيره ومكانته
فى ريعان الشباب تاقَتْ نفس الشيخ الحفنى إلى سلك الصوفيَّة، فأخَذ يتردَّد على زاوية الشيخ شاهين الخلوتى بسفح الجبل، ويمكث فيها الليالى متحنثًا متعبدًا، ثم أخذ العهد بعد الثلاثين من عمره على الشيخ: أحمد الشاذلى المغربى المعروف «بالقري» وعرف أتباعها «بالقربا شيلية» نسبة إلى السيد على أفندى قره باشي؛ أي: «أسود الرأس»، ثم تلقَّى الطريقة (الخلوتية) عن شيخها العلامة الإمام السيد مصطفى بن كمال الدين، ولمَّا جلس الشيخ «الحفني» للتدريس بالأزهر وغيره التفَّ حولَه الطلبة، وذاع صيتُه، وشهد له علماءُ عصره بالتقدُّم والرُّسوخ، ووصَفَه الجبرتى بأنَّه: «الإمام العلامة الهمام، أوحد زمانه علمًا وعملاً، أدرك ما لم تُدركه الأوائل، المشهود له بالكمال والتحقيق على تقدُّمه على كلِّ فريق، شمس الملَّة والدِّين».
وكان الشيخ العلامة مصطفى العزيزى إذا رُفع إليه سؤال يرسلُه إليه، وقد لهجت الألسنة بذِكره فى عصره، وتناقَل عنه الناس روايات عديدة عمَّا منحه الله إيَّاه من كراماتٍ، وقد زاده كرمه مكانة وحبًّا فى نفوس الناس وقلوبهم، وكانت له صَدقات وصِلات خفيَّة، ولا ينقطعُ وُرود الناس إلى بيته ليلاً ونهارًا.
وباختصار: فقد أقبل عليه الناس طولاً وعرضًا، كلُّ مَن طلب منه شيئًا وجَدَه، وكان رزقه من فيض الإله سبحانه.
وتسابَق العلماء فى عصره إلى إجازته والكتابة عنه، فقد ألَّف العلامة الشيخ حسن المكى كتابًا فى مناقب الشيخ الحفنى ونسبِه.
كما ألَّف العلامة الشيخ الدمنهورى كتابًا آخَر فى مناقب الشيخ ومَدائحه، وكان الأمراء والولاة يلهجون بكَراماته ومَناقبه، وقِيل لبعض الأمراء: إنَّ الإمام الشيخ الحفنى من عجائب مصر فقال: «بل قل: من عجائب الدنيا».
وقد أفاض الجبرتى فى ذِكر سلوكه الصوفى وترقيته على يد شيخه ورحلته إلى بيت المقدس، وعمَّن أخذ الطريقة على يد الشيخ الحفنى من أعلام الصوفيَّة، ومنهم الشيخ عبدالله الشرقاوى وهو الشيخ الثانى عشر للأزهر فيما بعدُ، وغيرهم من أقطاب التصوُّف فى ذلك الزمان، وكما استجازه العلماء وكتبوا عنه كذلك لهج الشعراء بمدحِه وصاغوا فيه القصائد المسهبة، فقد قالوا فيه قصائد تفيضُ رقَّةً وعذوبةً، مئات القصائد الطويلة والقصيرة تغنَّى بها الشعراء والأدباء فى مدحه، والمقام لا يتَّسع، فمَن أرادها فلينظُرها فى أماكنها.
وكان الشيخ الإمام يتمتَّع بموهبة أدبيَّة ظهرت فى شعره ونثره، وكان يوجِّه طلابه إلى دراسة المصادر العلميَّة العميقة؛ مثل «الأشموني» فى النحو والصرف، و«جمع الجوامع» فى أصول الفقه؛ للسبكي، وغير ذلك من الأصول العلميَّة.
والحقُّ أنَّ الرجل كان الناس يأتونَه، وكانت نفحات ربِّه تتوالى عليه، فكان كثيرَ الانقطاع لله - سبحانه وتعالى - وثيقَ الصلة به، مثله فى هذا مثل الطبرانى والعينى والسخاوي، يتساءلُ الناس: كيف اتَّسعت أوقاتهم لتأليف تلك الكتب، والحفنى واحدٌ من هؤلاء الربانيِّين.
وفاته
عندما يأتى قضاء الله ونهاية الأجل فلا رادَّ لقضائه؛ ففى يوم السبت قبل ظهر يوم 27 من ربيع الأول سنة 1181ه رحَل ذلك الجسد الطاهر إلى رحاب ربِّه العظيم، ودُفِنَ يوم الأحد بعد أنْ أدَّى الحاضرون عليه صلاةَ الجنازة فى الأزهر الشريف فى مشهدٍ مهيبٍ فيه خُشوع ورهبة.
وكان يومُ هولٍ كبير، ووقف الجميع على قبره يبكونَ حتى تحجَّرت المآقي، وجفَّت الدُّموع، ليس اعتراضًا على قضاء الله، ولكن حزنًا لهذا الفراق المؤلم، ولأنَّه سندٌ للفقراء والضعفاء والمظلومين