لا يفلح القهر في أن يكون بديلاً عن الجوع.. ولا يفلح اللطف في أن يكون بديلاً عن العنف.. هكذا نعرف منذ أن خلقنا الله، حتي هذه الأيام التي نعيشها الآن ونحن نتابع الأحداث علي كل الشاشات أولاً بأول. ولا أقصد بها أحداث تونس وحدها، وإنما أحداث الجزائر، والأردن أيضًا، فماذا يحدث في بلادنا «العربية» التي زارها يومًا فريد الأطرش راكبا بساط الريح الذي هو (علي حد قول ذلك الأوبريت الغنائي الجميل) جميل ومريح، لأنه يرينا هذه الأوطان والأراضي العزيزة الغنية بكل شيء، من الخيرات الغذائية إلي الخيرات الثقافية. لا يزال (بساط الريح) عملاً فنيا جميلاً عبر مبكرًا عن الرابطة العربية، وبعده جاءت أعمال فنية عديدة، خصوصًا بعد ثورة يوليو 1952 وصعود الحلم العربي إلي دائرة الضوء المحوري في سياساتها، مع ارتباطه بالحلم القومي ودولة الوحدة من المحيط إلي الخليج، عشرات الأغاني والأناشيد وآلاف بل ملايين الكلمات استهلكناها في الحديث عن الأمة العربية الواحدة، وصلت إلي ذروتها في نهاية عقد الخمسينيات، أيام الوحدة بين مصر وسوريا. وواصلت حتي تراجعت بعد الهزيمة في يونيو 1967، مع ذلك مازال الكثيرون منا يؤمنون بالوحدة العربية وإن تسرب إليهم اليأس في إمكان تحققها، بالرغم من النموذج الأكثر أهمية للوحدة الذي انطلق مدويًا بدون أغانٍ ولا أناشيد، وأعني به نموذج الوحدة أو الاتحاد الأوروبي. نجح هؤلاء بكل لغاتهم المتعددة، واختلافهم الأكبر فيما فشلنا فيه بلغتنا الواحدة، واختلافاتنا الأقل، تحول الاتحاد الأوروبي إلي قوة كبري وتقزم العرب إلي دول صغيرة فقدت إرادة التحقق علي جميع المستويات لأن متاعبها الداخلية توحشت وأكلتها من الداخل. وللدرجة التي أصبحت رابطة الأخوة العربية هشة بل بالغة الهشاشة لا تجمعها مواقف الوفاق بل الشقاق ولنتذكر واقعة العنف بسبب مباراة كرة بين مصر والجزائر والصراع المشتعل بين المغرب والجمهورية الصحراوية وانفصال جنوب السودان عن شماله بعد سنوات من الانشقاق، وماذا بعد الآن؟! مصر، الدولة المركز في (العالم) العربي.. وأحداثها التي بدأت منذ السبعينيات في القرن الماضي، أربعون عامًا من الأحداث الإرهابية، والطائفية تتناوب علي بلادنا، بينهما أحداث أقل ولكنها بالغة الضرر مثل بداية عصر الإضرابات والاعتصامات العمالية منذ سنوات احتجاجًا علي نتائج الخصخصة والإضرار بمصالح عمال الشركات والمصانع الذين يمثلون ثروة وقوة لا مثيل لها في كل مكان. وأمس فقط أزيل الستار الحديدي عن تونس الشقيقة لنكتشف جميعًا في وقت واحد تقريبًا، وهذه ميزة وقيمة الإعلام الفضائي نكتشف أن الرئيس بن علي الذي تحدث أمس الأول إلي شعبه متعهدًا بإحداث تعديلات في الخبز والحرية، أصبح بالأمس (الخميس والجمعة) رئيسًا سابقًا بعد أن هرب بطائرته خارج البلاد وتولي رئيس وزرائه الغنوشي الحكم. رأي العالم كله الأمن التونسي يضرب المواطن التونسي المحتج والمتظاهر لأيام طويلة دون أن يتحرك أحد لمنعه، وأصل ما حدث هو حكاية هذا الشاب الخريج (محمد بوعزيز) الذي لم يجد عملا فجلس علي الرصيف يبيع الخضار ليعول نفسه، وربما أسرته. ولكن الأمن لم يعجبه هذا فهجم عليه وضربه وأفسد الخضار، وربما حمله في سيارة الشرطة، كما يحدث أحيانًا في بلاد أخري، لكن الشاب لم يحتمل هذا القهر، ومن المؤكد أنه لم يحتمل أن تجوع أسرته بسبب هذا السلوك الأحمق من الشرطة، فأشعل في نفسه النيران ليحترق وليشعل النار في نفوس غيره من الشبان الذين بلا عمل.. ولا رزق. فالقهر ليس بديلاً عن الجوع لا في تونس ولا أي مكان آخر في العالم، وكذلك اللطف الذي يمتازبه إخواننا التوانسة ليس ولم يكن بديلاً عن العنف الذي تفجر منهم بعد هذه الحادثة. اللطف والمؤانسة والمودة كلها صفات تصلح لمجتمعات غير متوترة أو مقهورة، حتي لو بدت الوجوه مبتسمة أو تدعي هذا، أعرف أهل تونس اللطفاء جيدًا، وأعرف أهل الجزائر، وأهل الأردن، الفروق بينهم كبيرة، لكن المحنة الاقتصادية جمعتهم وأزالت هذه الفروق، ولهذا خرج الجزائريون إلي الشوارع احتجاجًا علي رفع الأسعار لدرجة لا تحتمل، وبعدهم خرج الأردنيون لنفس السبب، الأنظمة مختلفة ما بين جمهورية وملكية ولكن الخروج واحد. لأن السبب واحد هو شعور المواطن بالمهانة أمام السلع، الإنسان أهم من السلعة لكن السلعة في «بلادنا» العربية أصبحت أكثر أهمية وقيمة من المواطن الذي لا يطولها وهي ترتفع دائمًا لتصبح عزيزة عليه، مطيعة فقط للأقلية التي تملك، إنها الوحدة العربية الجديدة من الأبواب الخلفية، وحدة الشقاء وارتفاع الأسعار والبطالة والشباب المحبط بلا أمل، وحدة لا تترك للناس خيارات عديدة أو فرصًا مثلما يحدث في رحاب الاتحاد الأوروبي الذي يسع بعضه البعض الآخر، ويحتوي أغنياؤه مشاكل فقرائه. لكن في إطار «العالم العربي» توجد وحدة الألم فقط من خلال سياسات متشابهة تعجز عن إعالة الأغلبية وليس إسعادهم.. والموضوع لا يتعلق بالاقتصاد والأسعار فقط، لا في تونس أو الجزائر أو الأردن، ولكن بأمور أخري لا تنفصل عن رغيف العيش وعمار البيوت، أشياء مثل حقوق الجميع في التواجد والتعبير بعيدًا عن التهميش والإقصاء. ومن المثير للدهشة هنا، بل ربما الضحك، أن البعض من الأقوياء في كل بلد عربي يظن أنه بإمكانه عزل غيره بل إبعاده تمامًا من الصورة بفعل وسائل إعلامه الخاصة. ناسيًا أن هذا لم يعد ممكنًا الآن بفعل ثورة الإعلام التي أتاحت لكل من يريد أن يعرف ماذا يحدث حوله أن يعرف، نعم للإعلام خطايا وسلبيات، ولكن له شرف فضح ما يجري وراء الغرف والأسوار المغلقة، وله شرف بث الصورة المعبرة عن تغيير هائل، في نفس لحظة حدوثه، تمامًا كما حدث في تونس أمس الأول الجمعة، حين تحدث الرئيس بن علي من عليائه لشعب يغلي أكثر من 20 يومًا، فإذا به، بعد ساعتين، يغادر الأرض والشعب والرئاسة معًا وليصبح يوم 14 يناير عام 2011 هو يوم تونس، ورسالتها للعالم. للطف حدود، والجوع حدود، ولكن العنف بلا حدود.. هل يعي أحد هذا؟!