هل يعود الماضي من جديد.. وهل يعود رمضان كما كان في أيامنا الجميلة والبريئة من أشياء كثيرة تظلل أيامنا الآن؟ أكتب وأنا هاربة من المسلسلات مع أنها جزء من عملي الأساسي كناقدة للدراما في السينما والتليفزيون، يقول أصدقائي وأولاد كاري إنني طويلة النفس، أحتمل مشاهدة المسلسلات طوال العام من الألف للياء، أي ثلاثين حلقة بالتمام والكمال حتي أكتب عنها، وهم لا يقدرون علي هذا إلا في شهر رمضان فقط لأن المسلسلات أصبحت عنوانه والكل يرحل إليها للعمل فيها من المؤلفين للنجوم في التمثيل وكذلك الإخراج. منذ سنوات تحول شهر الصيام إلي شهر الكسل والفرجة علي هذه المسلسلات، وفي رأيي أن المشاهد كان معذورا لأن المواصلات أصبحت «حالة» مستفزة وعناء ما قبل الافطار يثقل علي الناس حتي المساء. أما الاسعار فهي العدو الذي لابد منه لأنه يفاجئك ويصرعك ولابد أن تنحني له، هل كان انتصار الفرحة المنزلية عبر الشاشة الصغيرة علي السينما والمسرح والسامر والشعر والأدب حتميا أم بفعل فاعل هو ارتفاع الأسعار وتدني الاجور ولهاث الجميع للبحث عن فلوس؟ وهل حقق لنا هذا اللهاث فائدة كبري واضافة مهمة نشعر بها فيما نستهلكه من مأكل وملبس وكل شيء نستخدمه في حياتنا؟ للأسف لأ، فكلما اشترينا شيئا وجدنا عليه علامة «مصنوع في الصين»، ومنذ سنوات أصبحت فوانيس رمضان التي هي جزء من تراثنا الفني الشعبي الأصيل مصنوعة في الصين، بل أيضا مستلزمات أداء الصلاة من السجاجيد الصغيرة للمسابح فماذا تبقي لنا؟ ومن هو الغافل عن مسئوليته الذي لم ينتبه إلي أننا شخصيا يمكن استنساخنا في الصين مادمنا تركنا أمورنا لغيرنا في كل شيء؟ مع ذلك فالأمل موجود في أن هذا لن يحدث، فالمصري لايمكن استبداله أو صناعته ولكن «اشتغاله» حسب التعبير الرائج هذه الأيام، والهجوم الكبير علينا، أي نحن المصريين، من شركات ومؤسسات الدعاية والإعلان والانتاج الاعلامي هو خير دليل علي هذا، خاصة بمناسبة بداية مهرجان المسلسلات العربي السنوي في رمضان.. البعض يعتقد أنه مهرجان حديث ولكنني قرأت منذ اسبوع أن أول تخطيط لرمضان التليفزيوني كان بفضل التليفزيون المصري في شهر فبراير عام 1961 الذي جاء في عام 1380 هجرية، ومن يومها والمواسم تتراكم. وهذه المعلومة مؤكدة لأنها كتبت علي شاشة قناة «التليفزيون العربي» التي أطلقت في عيد ميلاد التليفزيون الخمسين يوم 21 يوليو هذا العام وتم وأدها يوم 10 أغسطس قبل رمضان بيوم واحد، لتنطلق عليها قناة الدراما الثانية حاملة جزءاً من الشحنة الدرامية السنوية في رمضان.. الفكرة إذن مصرية تحولت مع مرور السنين إلي فكرة عربية، تبناها الجميع، فالشاشة الصغيرة هي عهدة كل دولة منذ اختراع التليفزيون وهي غير الشاشة السينمائية الكبيرة إذ لابد أن تنطلق من أحضان الدولة وتحت مسئوليتها.. ثم يبدأ القطاع الخاص عمله، وقد حدث هذا في مصر مؤخرا حين سمحت الدولة لغيرها ببث قنواته بعد ثورة البث الفضائي، وبذلك سمحت بمبدأ المنافسة، ولأن للمنافسة شرورها فقد أصبح نظام العرض والطلب هو النظام السائد، وبدلا من أن تحتفظ الدولة بمكانتها ودورها في تقديم إعلام قوي معبر عن جموع المصريين قادر علي إعدادهم ثقافيا وسياسيا لمواجهة المستقبل فإنها انطلقت تنافس الاعلام الخاص في مفرداته وأولها الاعتماد علي «الشو الإعلامي» بديلا عن الحوار الهادئ، والاعتماد علي ثقافة «النجوم» وليس الاصول وعلي مجتمع العاصمة بديلا عن مجتمع مصر الكبري.. وأصبحنا نري خارج القاهرة فقط بمناسبة الحوادث والأحداث المؤسفة، ثم جاءت المنافسة العربية في انتاج المسلسلات، سوريا أولاً ثم الخليج لتجعل التليفزيون يدخل منافسا شرسا في حرب «العرض الحصري» التي نتابعها منذ عامين وليتحول رمضان إلي شهر مغلق علي المسلسلات التليفزيونية وحدها، وحتي لو كنت غير محب لها فلن تجد أي إعلانات تقدم لك برامج أخري عن الأدب أو الشعر أو المسرح أو الكتب أو السينما أو غيرها من الفنون. أما إذا كنت محباً للمسلسلات مثلي فلابد أن تعاني من أجل اختيار الافضل، ووضع خريطة تسمح بهذا، والسبب أنه لا توجد عدالة في الدعاية لكل الاعمال التي نراها علي الشاشة الصغيرة الآن، سوف نجد دعاية مكثفة لمجموعة من الاعمال الاجتماعية ولن نجد أي دعاية لمسلسل تاريخي مهم مثل «سقوط الخلافة» الذي يقدم مرحلة مهمة من تاريخ مصر والشرق مع الخلافة العثمانية، وسوف نجد أيضا نصف دعاية المسلسل مثل «كليوباترا» الذي يتحدث عن مرحلة مهمة في تاريخ مصر. وسوف نكتشف أن «البرامج النارية» قد استطاعت التكاثر والتمدد علي شاشات التليفزيون المصري الارضية والمتخصصة والفضائية بما تحمله من ضيوف لا يتغيرون، وإنما يضاف إليهم البعض كل عام وينقص البعض ليعاود في دورة بعدها، وحين تري البرامج تكتشف أن الكثير من وقودها قائم علي فضائح الشهور الماضية والخلافات التي أخذت منا الكثير علي كل وسائل الاعلام. وكأن هذا لا يكفي، لن تجد أبدا ضيفا من نجوم العلم يناقشه برنامج في نظرية علمية جديدة، ولن تجد مواطنا محترما قدم شيئا مهما في موقعه، فالخريطة لا تسعه، الاعداد لا يعترف به نجما وكأنه كتب علينا أن نري من خلال أغلب هذه البرامج بقايا ما رأيناه فعلا من قبل.. ولابد في هذه الحالة أن نتذكر بعض ما رأيناه من برامج البدايات في الاحتفال الخمسيني، فنتأكد أن الماضي أصبح حلما مستحيلا.