أحاديث الماضى والحاضر تنهك القدرة على رؤية المستقبل والتخطيط له ، ويبدو الجميع فى السلطة أو خارجها لا يجيدون سوى اجترار أخبار الماضى واستدعائه كحل لمعضلة المستقبل .. فمن ينسبون أنفسهم – تعسفا – للاسلام يستدعون فكرة دولة الخلافة وأستاذية العالم .. و القوميون وبعض اليساريين يستدعون التجربة الناصرية .. ومنهم من يظهر اعجابه بالتجربة البرازيلية ومفهوم الدولة القائدة ويبغى استنساخها .. الخ هذه الاستدعاءات بالتقليد أو الاهتداء أو الاستنساخ .. وكل هذه الخبرات لها كل التقدير فى زمانها ومكانها والاسترشاد بالفلسفة الكامنة فيها والتى حولت الواقع المتراجع الى واقع مختلف أكثر حيوية واحتلال مكانة مرموقة فى التاريخ واقتناص مكانة مميزة فى الواقع الدولى اقتصاديا وسياسيا ، لكن الملاحظ غياب الابتكار المحلى والرؤية الابداعية التى تأخذ الوطن الى المكانة التى تتناسب مع انطلاقة يناير 2011 والتاريخ التليد لهذا الوطن والكثيرون يسهبون فى الحديث عن ضرورة اختلاق مشروع قومي يشحذ الهمم ويجمع شتات مجتمع صار منقسما .. مثال مشروع السد العالى فى الستينات من القرن الماضى .. لكن فى تقديرى أن مثل هذه المشروعات قيمتها تأتى من الأمل الذى تبعثه فى نفوس المواطنين .. وليس المشروع فى ذاته .. بعبارة أخرى بعث الأمل فى المواطنين هو المشروع القومى الحقيقى فى أى تجربة أدركت النجاح .. و كلما كانت آمال المواطنين عظيمة كلما كان صبرها جميلا وممتدا بمقدار عظمة آمالها .. مما ينتج عنه السلام اللازم للتماسك الاجتماعى وهو الأساس الضرورى لتحقيق التطور الاقتصادى والحضارى للوطن .. ما الذى تحتاجه مصر فى الوقت الراهن ؟ أمران أساسيان : الرؤية (الأفكار الطازجة) والتمويل .. فالرؤية وما تتضمنه من أحلام التطوير والتقدم مما نحن عليه ( وهو مملوء بالتعاسة والاحباط والعنف) الى مانريد أن نكون عليه محليا واقليميا ودوليا .. وضوح الرؤية واقناع الجماهير بها هو الأمر الضرورى وهذا يجعل اتخاذ القرارات أمرا ميسورا بسبب تأييد الشعب حتى لو كانت هناك تضحيات صعبة طالما أن الكل يشارك وبالتالى فالكل سيتحمل عن طيب خاطر بل لعلى لا أبالغ سيكون الشعب مستمتعا بتضحياته لأنه ستصبح أحلامه مرتبطة بهذه الرؤية ولأنه يعلم مآل مجهوداته فى المستقبل وآثارها عليه وعلى أبنائه وأحفاده. ومثل أى هدف عظيم سيكون تحقيقه بحاجة الى تعبئة موارد ضخمة مصدرها الأكبر من الداخل .. أى تمويل ضخم .. وهنا يكون السؤال كيف؟ .. لو نظر أى منا حوله سوف يجد الاقتصاد المصرى منقسم بين رسمى أى مسجل ضمن احصاءات الدولة القومية .. وهذا الاقتصاد هو ما يتمتع بالحماية القانونية ومتابعة الدولة .. وهذا الاقتصاد الرسمى أقل من 50% من الاقتصاد الوطنى الفعلى .. أما الاقتصاد غير الرسمى والذى لايجد سبيلا الى سجلات الدولة الرسمية فانه يزيد على 50% من الاقتصاد الوطنى وهذا الاقتصاد برغم ضخامته له نفوذه الفعلى يسلطة الأمر الواقع لكنه اقتصاد مطارد و لايتمتع بالحماية القانونية و لا متابعة الدولة .. وهذا الاقتصاد غير الرسمى تجده أكثر وضوحا فى القطاع العقارى سواء مبانى أو أراضى .. فمصر بها أكثر من 20 مليون وحدة سكنية المسجل منها بالشهر العقارى أقل من 10% بينما أكثر من 90% منها لم يجد طريقه للسجلات الرسمية بالرغم من توصيل المرافق لأغلبية هذه الوحدات العقارية .. وغياب المظلة الرسمية والحماية القانونية لهذا الحجم الضخم من الثروة العقارية يجعل التكاليف الخاصة بها أعلى من تلك التى تتمتع بالحماية القانونية .. وهذا الوضع يفسر استشراء الفساد فى المجتمع وهو مايزيد من تكلفة هذه الأنشطة غير الرسمية .. والا كيف تم توصيل المرافق لهذه الوحدات .. وهذا الوضع تناوله بشكل ممتاز الاقتصادى (هرناندو دى سوتو ) فى كتابه ” سر رأس المال” وحاول الاجابة فيه عن سبب انتصار الرأسمالية فى الغرب واخفاقها فى بقية الأماكن .. ولفت النظر الى أن السبب هو عدم تسجيل الأنشطة العقارية والأنشطة الاقتصادية الأخرى .. و انعدام تمتعها بالحماية القانونية .. والسبب فى ذلك هو اجراءات التسجيل ومدتها .. اذ تصل اجراءات التسجيل الى سنوات قد تصل الى 14 سنة واجراءات بيروقراطية تصل الى أكثر من 100 اجراء والتعامل مع أكثر من 30 جهة .. لذا اصبح التعامل بالعقود الابتدائية غير المشهرة هو الشائع فى تداول الثروة العقارية .. وبالتالى تفقد الدولة مبالغ كبيرة كرسوم تسجيل وضرائب على التصرفات العقارية وهو مايمكن أن تسهم بشكل ملموس فى موارد الدولة السيادية .. وقد يستغرب القارىء من هذا الاستعراض لهذه المسألة والتى تبدو أنها قانونية وتبدو أنها خارج سياق الموضوع .. ولكننى أفاجئك عزيزى القارىء بأن هذا هو المشروع القومى الذى سيزيد من رفاهية المواطن ويزيد من موارد الدولة السيادية ,, واليك البرهان : تقدر قيمة الثروة العقارية فى مصر بنحو 10 تريليون جنيه أى ستة أمثال الناتج المحلى الاجمالى فى عام 2012 يمتلك الفقراء منها نحو 3 تريليون جنيه !! يتمتع بالحماية القانونية أقل من تريليون جنيه أو أقل من 10% من جملة الثروة العقارية المملوكة للمصريين .. وهنا سيكون السؤال وماذا بعد؟ أولا : بالنسبة لمالك العقار عند تسجيل عقاره يستطيع أن ينتج من خلاله رأس المال وتحقيق القيمة المضافة .. اذ يمكن بضمانه الحصول على قرض لاقامة مشروع فى المجال الذى يجيده .. وبذلك يتم استخدام المنزل كوحدة اقتصادية مدرة لرأس المال بدلا من الاستخدام النمطى كمأوى أو الاستثمار الريعى العقيم الذى ينتظر ارتفاعات قدرية فى المستقبل وهو ما يسمى ب” التسقيع” .. اذ بموجب سند الملكية المشهر يمكنه الحصول على رأسمال لاقامة مشروع مربح .. من أرباحه يسدد الأقساط .. وفى النهاية يملك المشروع ويتخلص من الرهن .. وبذلك يحقق قيمة مضافة لنفسه ولأسرته ولوطنه حيث ستزيد السلع المنتجة أو الخدمات فى أى مجال يكون المواطنون فى احتياج اليه .. وربما يصدر جزءا منه ثانيا: تحريك منظومة التمويل العقارى فالعائق الأهم هو غياب التتسجيل للأراضى والعقارات وهذا من شأنه تنشيط الطلب على مواد البناء ثالثا: توظيف السيولة المتاحة بالجهاز المصرفى بالاقراض بضمانات سندات الملكية كما ستزيد السيولة بودائع أصحاب المشروعات الجديدة. رابعا: بالنسبة للدولة فلو كانت رسوم تسجيل العقار 2000 جنيه فان ال 18 مليون وحدة غير الرسمية ستورد 36 مليار جنيه للدولة ، واذا تم تقدير أن 10% يجرى تداولها سنويا أى نحو 2 مليون وحدة فذلك يوفر حصيلة سنوية تصل الى 4 مليار جنيه سنويا .. بخلاف ضريبة التصرفات العقارية والتى أقترح أن تكون ” قيمية” وليست ” نسبية” لتيسير اجراءات التسجيل وكتابة عقود صادقة بين المتعاملين بأن تكون بواقع 10 جنيه مثلا للمتر المربع فاذا تم تقدير أن متوسط مساحة الوحدة 100 متر مربع وعدد الوحدات القابلة للتداول 2 مليون وحدة كما سلفت الاشارة تكون جملة المساحات 200 مليون متر مربع يتم تحصيل 2 مليار جنيه عنها سنويا .. اذن تستطيع الدولة تحصيل نحو 6 مليار جنيه رسوم تسجيل و ضريبة تصرفات عقارية بخلاف ال 36 مليار جنيه سالفة الذكر خامسا : اتجاه المواطنين لاقامة المشروعات المملوكة لهم بضمان عقاراتهم سيعظم من نصيب المشروعات الصغيرة والمتوسطة .. والتى يلزم تسجيلها فى الاقتصاد الرسمى .. وهذا سيوفر الملايين من فرص العمل .. وهنا سستحصل الدولة على موارد كامنة تتمثل فى ضرائب الدخل وكسب العمل والتأمينات الاجتماعية وبالتالى يتم التوسع الأفقى فى المجتمع الضريبى مما يقلل حاجة الدولة الى الضرائب التصاعدية مما يزيد من حوافز الاستثمار . سادسا : النتيجة المتوقعة كذلك تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلى بزيادة انتاج السلع والخدمات التى ستتولد من تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة مما يؤدى الى تحسين الميزان التجارى بزيادة التصدير والاحلال محل الواردات ورفع مستوى التنافسية للاقتصاد المصرى ويتراجع التضخم ويستقر سعر الصرف وامتصاص العاطلين .. مما سيجبر الدولة على تطوير التعليم لخدمة سوق العمل الجديد وتحسين مراكز التدريب. سابعا :استتباب الأمن اذ سيصبح غالبية المصريين معلومى الاقامة من خلال التسجيل مما يسهل تتبع مرتكبى الجرائم الجنائية .. وهذا من شأنه تطوير أداء جهاز الشرطة والأجهزة الأمنية .. ومع الارتقاء الاقتصادى للمواطنين يكون للمواطن ما يخشى عليه .. وهنا يكون مسالمة الآخر أمرا ضروريا للحفاظ على المكتسبات فى العهد الجديد .. ويلجأ الجميع للقانون طلبا للحماية .. مما يوسع من سيادة القانون ويرسخ دولة القانون. أرجو بعد قراءة ما تقدم ادراك الطاقات الكامنة فى الاقتصاد المصرى الذى لو تمتع بالحماية القانونية و تم دمج الاقتصاد غير الرسمى بالاقتصاد الرسمى .. سنقرأ جميعا بيانات اقتصادية مذهلة عن الناتج المحلى وعن التضخم وعن التشغيل واستقرار سعر الصرف وانتفال مصر بمؤشرات القوة الشرائية الى مستويات أعلى فى متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلىفى غضون سنوات قليلة .. المهم الرؤية والارادة السياسية التى تفتح الآفاق لجميع المواطنين بلا تمييز أو تعصب. عيسى فتحى