تطالعنا الصحف يوميا عن فكرة إنشاء إنشاء نيابة مدنية ، وقيل أن الفكرة ليست وليدة اليوم وإنما هى أحد نتاج الأفكار التى تبناها مؤتمر العدالة ، بهدف تحضير الدعوى والتأكد من صحة إعلان الخصوم وإسناد بعض الأنزعة البسيطة اليها كالشأن فى دعاوى إثبات الحالة وإسناد إختصاص مجالس الصلح اليها ، ثم طالعتنا الصحف بإمكانية إعمال وتفعيل تلك الفكرة عن طريق هيئة قضايا الدولة وأن يتم تغيير اسم الأخيرة اليها ويتم إفراغ محتواها فيها لتصير جزءا من جهة القضاء العادى . وفكرة إدارة الدعوى ، هى فكرة من نبت النظم الأنجلوسكسونية ” الولاياتالمتحدة المملكة المتحدة ” وأشهر الداعين لها ديفيد ستيلمان ، وريتشارد فان دويزاند كإستشاريين بمجال إدارة المحاكم بالمركز القومى لمحاكم الولاياتالمتحدة والقاضى كيفن بروك وله دراسة بعنوان ” الإنصاف فى الإجراءات ” لدى جمعية القضاة الأمريكيين وطبقت كذلك ببعض التشريعات العربية على سبيل المثال المادة 59 مكرر من قانون أصول المحاكمات المدنية بالتشريع الأردنى ، وهذه الفكرة مؤداها أن هناك قاض يتولى تحضير الدعوى بالتحقق من إعلانات الدعوى وجمع بينات الخصوم ثم محاولة تقريب وجهات النظر بين الخصوم بعرض التسوية وتحديد الوقائع المتفق عليها وكذلك الوقائع المختلف بشأنها وأخيرا إعداد محضر بماتم من إجراءات خلال مدة زمنية معينة تترواح من شهر الى ثلاثة اشهر من تاريخ أول جلسة له و إحالة الدعوى الى قاضى الموضوع وهى مكتملة البينات وقد صارت نقاط النزاع فيها محددة كى يصل الى جوهر النزاع والحكم فيها .أبرز ما قيل تبريا لتلك الفكرة : 1 التأكد من إعلان الخصوم ، وأنهم قد مثلوا بالدعوى تمثيلا صحيحا والتحقق من توقيعاتهم على كافة مستنداتهم وأوراقهم بالدعوى الأمر الذى تحال معه الدعوى الى قاضى الموضوع مكتملة الى حد ما من حيث الشكل . 2 حصر البينات وإختصار الوقت فى إجراءات التقاضى ، فقد أصبحت عملية جمع الأدلة تتم تحت رقابة وإشراف قاض . 3 إمكانية التسوية الودية بين الخصوم ، وبالتالى توفير الجهد والنفقات اللازمين للتقاضى . 4 تحديد نقاط الإلتقاء والإختلاف بين الخصوم ، وإعداد محضر بالإجراءات التى تمت ، بالتالى يمكن لقاضى الموضوع الإستفادة من تلك النقاط ، مثلا الأخذ بدلالة الإقرارات التى تمت فهى بمثابة إقرارات قضائية تمت لدى مجلس القضاء وتكون حجة على المقر . 5 إمكانية الإستفادة من النيابة المدنية بإسناد بعض الإختصاصات اليها بغرض السرعة وتخفيف العبء عن كاهل المحاكم ، كدعاوى إثبات الحالة ومجالس الصلح المنصوص عليها بالمادة 64 من قانون المرافعات ( مؤتمر العدالة ). الإ اننى أرى من ناحية خطورة شديدة من تبنى فكرة إدارة أو تحضير الدعوى ، ومن ناحية أخرى أرى خطورة شديدة من تبنى كذلك فكرة دمج الهيئات القضائية بتغيير مسمى هيئة قضايا الدولة تحت مسمى النيابة المدنية وتصير جزءا من جهة القضاء العادى سواء من حيث المبدأ القانونى أو على صعيد المتقاضى المصرى الذى سيتحمل فاتورة ذلك من ماله وجهده ووقته على النحو التالى : 1 إطالة المعدل الزمنى للتقاضى وإنشاء درجة جديدة على كاهل المتقاضى المصرى : إن تخصيص ما يسمى ” بقاض التحضير ” وجعل الإجراءات أمامه زمنيا بمدة تترواح من شهر الى ثلاثة اشهر ، بميعاد تنظيمى يعد بمثابة إنشاء لدرجة جديدة للتقاضى هى ” درجة التحضير وإدارة الدعوى ” تتنافى وفكر المشرع المصرى الذى سعى دوما لتقليل المعدل الزمنى للخصومة دون تفريط بمسألة الشكل ، ذلك أن إدارة الدعوى أو تحضيرها ، هى بالأساس جزء من عمل القاضى والتأكد من إنعقاد الخصومة بالشكل اللازم والإ صار حكمه باطلا ، رغم أن المشرع المصرى قد أحسن معالجتها فيما نص عليه من وجوب أن ترفع الدعوى إلى المحكمة بناء على طلب المدعي بصحيفة تودع قلم كتاب المحكمة ما لم ينص القانون على غير ذلك مشفوعة بمذكراته ومستنداته وكذا إيداع المدعى عليه دفاعه مقرونا بمذكراته ومستنداته ونص كذلك بعدم جواز تأجيل الدعوى أكثر من مرة لذات السبب ، فالقاضى هنا يمكنه التحقق من صحة الإعلان وإبداء الخصوم لدفاعهم ودفوعهم بجلسة أو أكثر فى إطار زمنى أقل كثيرا مما يستغرقه قاض التحضير من شهر الى ثلاثة اشهر وميعاد تنظيمى بما يجعلها والحال كذلك بمثابة درجة جديدة من درجات التقاضى خصصت فقط للتأكد من إستيفاء الشكل ، ليتحمل المتقاضى بعدها عبئا جديدا لدى قاضى الموضوع لإعادة التناضل امامه من جديد وما يستتبع ذلك من جهد ومشقة لإطالة الأمد الزمنى ويحمله مزيدا من النفقات والأتعاب . 2 إن فكرة إنشاء أو تخصيص كيانات مستقلة للصلح بين المتقاضين ثبت عدم جدواها من الناحية العملية ، حين أن المشرع المصرى لم يمنع الخصوم مطلقا من الإتفاق على الصلح بل وإفراغ محتواه بمحضر الجلسة وأعطى لإتفاق التصالح قوة الأحكام دون إرهاق المتقاضين بتخصيص كيان منفصل لذلك ووجوب العرض عليه وتأجيل الدعوى مرارا لذلك الغرض . وكذا خصص المشرع للمسائل المستعجلة ، القضاء المستعجل لنظر الأمور المستعجلة كجزء من قضائنا ، وتناولها ببنيان قانونى كامل دون ماحاجة لإعادة تنظيمها لدى كيان آخر . 3 إن فكرة ” إدارة الدعوى أو تحضير الدعوى ” تتنافى ومبادىء قانونية إستقرت عبر سنوات فعلى سبيل المثال ، من المبادىء المستقرة قضاء ، هى وحدة الحكم فى الدعوى بمعنى نظر الموضوع والحكم فيه لدى ذات القاضى أو هيئة الحكم دون إخلال بطبيعة الحال بضمانة التقاضى على درجتين ، لحكمة أن من يستمع الدعوى …. هو من يحكم فيها ، والإ صار ذلك تعددا غير محمود للإجراءات والنظم من شانه إرهاق المتقاضى ، سيما بجهاز غير تابع لقضاء الحكم وما يخفى على ذلك من خلق حالة من التعدد والشيوع فى المسئوليات يتحمل مغبتها المتقاضى فى الدعوى بإرهاقه بإجراءات لاطائل منها ، يقوم بها قاضى الموضوع دون عناء . 4 إن النظم التى تبنت فكرة ” إدارة أو تحضير الدعوى ” عجزت عن معالجة تفعيل إجراءاتها بالجزاءات اللازمة ، على سبيل المثال لم تعالج الفرض الذى يتنكب المدعى عليه عن الحضور أمامها ، فما على قاضى التحضير سوى إحالة الدعوى بحالتها الراهنة الى قاضى الموضوع ، وهو الأمر الذى ثبت معه اتاحة الفرصة للمدعى عليه بإطالة امد النزاع وإرهاق المدعى بإجراءات دون جدوى . 5 إن فكرة ” إدارة او تحضير الدعوى ” لم يرد فيها الى أن تكون إدارة الدعوى عن طريق النيابة المدنية ، وإنما كانت تتحدث عن قاض لتحضير وإدارة الدعوى ، ولايخفى قانونا الفارق بين أن يتم جمع الأدلة وإثباتها لدى قاضى يتوافر فيه مجلس القضاء ، ويعد الإقرار أمامه إقرارا قضائيا لكونه بمجلس القضاء ، وما دون ذلك من جهات أخرى بما يعد إهدارا لضمانات وأدلة يخسرها المتقاضى . 6 إن هيئة قضايا الدولة ، قد تمت نشاتها عام 1874 فى عهد نوبار باشا بغرض حماية الوزارات والهيئات العامة والدفاع عن مصالحها ، ومنح اعضاؤها ذات حصانة القضاة ويسرى عليهم مبدا عدم القابلية للعزل ، وأفرزت فى الحياة القانونية رجالا عظاما بدءا من عبد الحميد باشا بدوى والدكتور عوض المر و المستشارين عصمت عبد المجيد وإدوارد غالى الذهبى ممن ارسوا الحياة القانونية وساهموا فيها بما هو اولى بالحفاظ على هذا التراث وذاك الغرض . 7 إن القضاء ليس فقط مهنة ، وإنما هى ولاية تتطلب صلاحية أكثر قيدا والتزاما من الصلاحية لتولى الوظائف العامة ، تفرض على عاتق القضاة قيودا صارما ليست فقط بوظيفتهم وإنما فى حياتهم أيضا الشخصية والإجتماعية ، تتراكم فيها خبرات الزمن لتثقل القضاة بسوية لاميل فيها ولا هوى وحضور وجهد ومثابرة بمجلس القضاء وأن هيئة قضايا الدولة هى هيئة خصصت لغرض الدفاع عن الدولة بوزاراتها وهيئاتها ولاتقوم بأى عمل قضائى دون إخلال بافحترام الواجب لأعضائها فهم وإن منحوا مزايا القضاة الإ أنهم ليسوا كذلك ، وان دمجهم فى النسيج القضائى بمثابة إدخال لجسم غريب بجسد القضاة ، لن يجنى منه سوى التنافر الذى سيخسر به الجميع . 8 إن تلك التجربة ، كان ينبغى ان تؤخذ بمبادرات مدروسة ، يعكف عليها المختصون ويستفتى فيها القضاة المعنيون ، بشفافية وموضوعية تامة ، لإبراز نتائجها ….. ثم يتم إفراغها بقوانين مستفيضة متكاملة ، فما الداعى لتلك العجلة بمحاولة إنتزاعها نزعا والنص عليها بالدستور دون إدراك لعواقبها على المجتمع بكامله . سبحانك اللهم لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ….. ونسأل الله التوفيق والسداد .