في الأونة الاخيرة دار جدال كبير حول أهمية السعادة وكعادة المجتمع المصري تحول الموضوع إلى مادة للفكاهة أو للتنظير، ولكن يبقى السؤال قائمًا: هل السعادة هي رفاهية لم يصل لها المجتمع المصري بعد أم بند يجب ان يوضع على أولويات أجندة الحكومة المصرية؟ وللرد على هذا السؤال يجب علينا مراجعة خارطة السعادة العالمية وكيف بدأت. بالرغم من التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي لم يسبق له مثيل في العالم خلال الأونة الاخيرة، إلا إن هناك شعورًا متزايد بالتشاؤم والاحباط وفقدان الأمان وإنعدام الشعور بالرضا، وهذا يعني أن الوقت قد حان لإعادة النظر في المصادر الأساسية للسعادة في الحياة الاقتصادية. مما لاشك فيه أن التقدم الاقتصادي مهم بل هو خطوة حيوية من أجل تعزيز السعادة، فعندما يكون الناس جوعي ومحرومين من الاحتياجات الأساسية مثل الماء النظيف والرعاية الصحية والتعليم سيكونون تعساء، ولكن يجب أن يتم السعي لتحقيق التقدم الاقتصادي بشكل يتوافق مع الاحتياجات الكلية للمجتمع. فبرغم ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير في العديد من الدول المتقدمة في الأربعين سنة الماضية، لكن السعادة لم تزد، بل بالعكس، آدى ذلك إلى إنعدام المساواة في الثروة والقوة وزيادة كبيرة في أعداد الطبقات الفقيرة، حيث اصبحت الرأسمالية العالمية تشكل تهديدًا مباشرًا للسعادة؛ فهي أضرت بالبيئة الطبيعية وعززت الإدمان الاستهلاكي كما سخرت جميع قيم المجتمع لخدمة السعي للربح. وتعتبر من طليعة الدول الرائدة في دعم اقتصاد السعادة هي مملكة بوتان الصغيرة الواقعة في جبال الهملايا بين الهند والصين، المكان الأكثر عزلة عن العالم. فقبل أربعين عامًا قررالملك الرابع لبوتان، التركيز على "السعادة المحلية الإجمالية" بدلًا من الناتج المحلي الإجمالي، ومنذ ذلك الحين قامت مملكة بوتان بتجربة شمولية للتنمية المستدامة لا تركز على النمو الاقتصادي فقط كمقياس للتقدم، إنما حفز أيضًا الحكومة والمنظمات الأهلية والقطاع الخاص لوضع مبادرات لزيادة السعادة القومية الإجمالية. ومنذ ذلك الحين، أنكب بعض الباحثون على دراسة الصلة القائمة بين الاقتصاد والسعادة منتجين نظريات كونت أدوات معرفية جديدة، يستخدمها اليوم المتخصصون في إدارة الحكومات. وتحولت السعادة إلى حق من حقوق الإنسان اعترفًا بالصورة المركزية للفرد. وقد أسهم أيضًا اقتصاد السعادة في التقديم لمنحى آخر من علم النفس حيث كان العلماء قبل ذلك يركزون فقط على الجانب السلبي من الأمراض النفسية ومشاعر القلق والاكتئاب والعزلة. فقد طرأ في العقد الأخير تغيرًا ملحوظًا حيث تم الكشف على الجانب الإيجابي من هذا العلم ليوضح آليات إفراز طاقة إيجابية غير محدودة منفتحة للحياة ومؤهلة للبناء والمشاركة. وبدأ مارتين سليجمان تدشين علم النفس الإيجابي سنة 1998 وقد أسس مركز علم النفس الإيجابي بجامعة بنسلفانيا سنة 2003 ليجسد بؤرة للمشاريع التعليمية والبحثية التي تعزز الطاقة الإيجابية للأفراد بالمؤسسات والمجتمع. من الممكن قياس السعادة بمقاييس تتيح تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: زيادة المؤثرات الإيجابية، تقليل المؤثرات السلبية ورفع الوعي. في يوليو 2011، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا باعتبار 20 من مارس يومًا عالميا للسعادة، وذلك في ضوء اقتراح قدمه رئيس وزراء مملكة بوتان دعا فيه الدول الأعضاء إلى اعتماد مستوى السعادة لدى الشعوب مقياسًا لمدى تقدمها المجتمعي. كما عقب الأمين العام للأمم المتحدة، قائلًا إن «العالم بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يحقق التكافؤ بين دعائم الاقتصاد الثلاث: التنمية المستدامة والرفاهية المادية والاجتماعية وسلامة الفرد والبيئة". صدر أخيرًا تقرير السعادة العالمي لعام 2016، حيث تصنفت في ضوئه 157 دولة ، وما يجلب الانتباه في هذا التقرير هو أنه على الرغم من أن الدول العشر الأولى هي من الدول الغنية وأن الدول العشر الأخيرة هي من الدول الفقيرة، أو التي أفقرتها ظروفها السياسية كما هو حال سوريا، إلا أن درجة الغنى ليست بالضرورة درجة أعلى في سلم السعادة. فالدنمارك التي احتلت المركز الأول في السعادة تشغل الموقع الحادي والعشرين في حجم الناتج المحلي للفرد، وفق تقرير صندوق النقد الدولي. ويعتبر هذا التباين هو انعكاس منطقي لتحول آليات الاقتصاد. فيما قبل كانت الأرض والعمالة ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد. بينما يعتبر الاقتصاد المعرفي الان هو المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي والسبيل الوحيد لتحقيق التنمية الشاملة. ويستند الاقتصاد المعرفي إلى أربع ركائز أساسية هي: 1- الابتكار 2- التعليم. 3- البنية التحتية الداعمة لتقنيات تجهيز المعلومات وتبادلها 4- الحوكمة التي توفر الأطر القانونية التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية والنمو. ولتوضيح مفهوم الاقتصاد المعرفي يمكننا أن نلقي نظرة سريعة على قائمة أغلى 10 شركات في العالم من حيث القيمة والتي تتصدر فيها الشركات العاملة في مجال التقنية المراكز الأربعة الأولى. حيث تتربع شركة ألفابت المالكة لجوجل في المقدمة ، فيما هبطت أبل المصنعة لهواتف آيفون وأجهزة آيباد إلى المركز الثاني، بعد أن حافظت على الصدارة منذ عام 2012. وفي المركز الثالث جاءت شركة البرمجيات العملاقة مايكروسوفت. ثم شركة فيسبوك التي تدير موقع التواصل الاجتماعي الأكبر في العالم. أما المركز الخامس فهو من نصيب شركة أمازون للتجارة الإلكترونية، متخطين بذلك كبرى شركات العالم في مجالات النفط والغاز والسيارات والعقارات. فالثروة المعرفية من اختراعات وابتكارات والتي ينتجها الانسان أثبتت وبكل جدارة أنها أغلى من الثروات الطبيعية، لذلك نجد أن أجهزة الهواتف الذكية على سبيل المثال تباع بآلاف الجنيهات في حين أن قيمة المواد الخام المصنوعة منها هذه الهواتف مثل الزجاج والبلاستيك تقدر ببضعة جنيهات، ومن ثم فإن القيمة الحقيقية تكون في المعرفة والتقنية التي تشغل الجهاز وليس المواد الخام. ولذلك أجمعت دول العالم على أهمية وضع سعادة الشعوب على أولويات اجنداتها ليس ضربًا من الرفاهية ولكنها السبيل الوحيد للبقاء خلال عصر المعرفة الذي نعيشة بالفعل. وبذلك على الحكومة المصرية مراجهة أجندة أولوياتها وتحليل الأسباب التي أدت الي تراجع مركز مصر في تقرير "السعادة العالمي لعام 2016، إلى رقم 120 من بين 157 دولة لتصبح مصر ثاني اكبر دولة تسجل تدهورًا في مستوى سعادة شعبها بعد اليونان التي تشهد أزمة مالية طاحنة منذ سنوات. وأن يصبح المصريين أقل سعادة من شعوب العراق وليبيا الذين يعيشون حروبًا مستمرة، ويصنفان كأقل البلدان العربية أمنًا.