بين استمرار الإضرابات وإصرار الحكومة على عدم زيادة الأجور بالمستوى المطلوب، تعيش بريطانيا حالة من الفوضى ازدادت سوءا مع تنفيذ قطاع التمريض فى إنجلترا وويلز وأيرلندا الشمالية أكبر إضراب من نوعه فى تاريخ الخدمات الصحية البريطانية، ليلحق بهم سائقو سيارات الإسعاف وموظفو قوات الحدود، ما استدعى الاستعانة بالجيش، الأمر الذى يزيد الضغوط على رئيس الوزراء البريطانى المحافظ ريشى سوناك فى ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تواجهها البلاد. تقديرات خبراء الاقتصاد تشير إلى أن بريطانيا تشهد حاليا أكبر عدد من الإضرابات منذ عهد رئيسة الوزراء الراحلة، مارجريت تاتشر، بحسب وكالة بلومبرج للأنباء، وذلك للمطالبة بزيادة الأجور فى مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث بلغ معدل التضخم فى المملكة المتحدة، فى أحدث بيان، 10.7 %، مدفوعا بالارتفاع الحاد فى أسعار الطاقة والمواد الغذائية. وأوضح مكتب الإحصاء الوطنى أن الأجور المنتظمة بشكل عام نمت بنسبة 6.1 بالمئة فى الأشهر الأخيرة، لكن مع أخذ التضخم فى الاعتبار، انخفضت الأجور بنسبة 2.7 بالمئة. ويعانى البريطانيون حاليا من أدنى مستوى للمعيشة منذ 66 عاما، وبحسب مكتب الإحصاء الوطنى، يعانى نصف البالغين فى بريطانيا من صعوبة فى سداد فواتير الطاقة والدفعات الشهرية الأخرى بما فى ذلك الإيجارات وأقساط قروض العقارات. وفى ظل هذه الظروف المعيشية الضاغطة، قالت الكلية الملكية للتمريض إن أطقم التمريض لم يكن لديها أى خيار آخر بعد أن رفض مجلس الوزراء استئناف محادثات الأجور. وبعد انضمام قطاع التمريض إلى موجة الإضرابات التى تشل بريطانيا، أعلن نحو 10 آلاف موظف من سائقى سيارات الإسعاف فى إنجلترا وويلز، عن تنفيذ إضراب فى 21 و29 ديسمبر بسبب الخلاف حول حجم زيادة الأجور. وأعلن الاتحاد الرئيسى، الذى يمثل موظفى قوات الحدود التوقف عن العمل ثمانية أيام بين 23 و31 ديسمبر الحالى، فى برمينجهام وكارديف وجلاسكو وجاتويك وهيثرو ومطارات مانشستر وفى ميناء نيو هايفن، وسط توقعات بحدوث اضطراب كبير للمسافرين خلال عيد الميلاد، وهو آخر الاتحادات العمالية التى قررت التحرك هذا الشتاء، لينضم إلى موظفى السكك الحديدية والبريد وسائقى الحافلات وآخرين. وفى مواجهة الإضرابات غير المسبوقة، أعلنت الحكومة البريطانية تعبئة نحو 1200 عنصر من الجيش، ليحلوا مكان موظفى الإسعاف وقوات حرس الحدود، مؤكدة موقفها حول عدم إمكانية تلبية مطالب النقابات المضربة، وأن رفع أجور عمال الإسعاف والتمريض، تقرر من قبل هيئات مستقلة لمراجعة الأجور، والتى أوصت بزيادة الرواتب بنسبة 4.75 فى المئة، فى حين أن طلب الكلية الملكية للتمريض بزيادة الرواتب بنسبة 19٪ لا يمكن تحمل تبعاته المادية. من جانبه، تمسك رئيس الوزراء ريشى سوناك، الذى تراجعت شعبية حكومته فى استطلاعات الرأى، بموقف حازم متوعدا بفرض قوانين لمكافحة الإضرابات لحماية الأرواح وسبل العيش. وفى مقابلة مع صحيفة «ديلى ميل»، عبر سوناك، عن أمله أن يرى قادة النقابات أنه ليس من الصواب التسبب فى اضطرابات لكثير من الناس، خاصة فى وقت عيد الميلاد. وأضاف سوناك للصحيفة «لكننى على استعداد لفرض تشريع جديد العام المقبل لحماية حياة الناس وتقليل الاضطراب، الذى يصيب سبل معيشتهم. وهذا شىء نعمل عليه بوتيرة سريعة». ويبدو أن رئيس الوزراء يكافح لنزع فتيل شتاء جديد من السخط البريطانى، كما تقول وسائل الإعلام البريطانية والعالمية فى إشارة إلى الإضرابات الحاشدة، التى هزت البلاد فى أواخر السبعينيات. وحينها، اتهمت مارجريت تاتشر حكومة حزب العمال بفقدان السيطرة، والآن نفس التهمة يوجهها حزب العمال ضد المحافظين، حيث يصور حزب العمال فشل الحكومة فى تسوية الاضطرابات كجزء من فشل المحافظين الأوسع فى إدارة الاقتصاد، وبالتالى الدولة. وبالرغم من أن الكثير تغير بالطبع منذ ذلك الحين، ومنها قوة النقابات العمالية فى بريطانيا، التى تضاءلت كثيرًا منذ السبعينيات، لكن الخطر السياسى على حكومة المحافظين برئاسة ريشى سوناك لا يزال حادًا، وانتهز المعارضون الفرصة لإلقاء اللوم عليه فى بلد يبدو أنه محطم، بحسب «نيويورك تايمز». وفى سياق الانتقادات الموجهة لسوناك بشأن طريقة التعامل مع الإضرابات، قالت صحيفة «الإندبندنت» فى افتتاحية لها إنه حين تضطر الحكومة إلى دعوة الجيش إلى الحفاظ على الخدمات العامة الحيوية، يشكل ذلك علامة على الضعف وليس القوة، ذلك أن الحكومة إذا لم تتمكن من تسوية النزاعات الخاصة بالأجور من دون اللجوء إلى مساعدة عسكرية، تكون الأمور قد سلكت مساراً خاطئاً حقاً. وتابعت الصحيفة: لا شك فى أن القوات ستنفّذ الأوامر وستمد يد المساعدة عند الضرورة، لكن عدد القوات هو ببساطة أقل مما يجب لإحداث فارق عملى كبير، ولا يمكن نشر القوات فى مهام تقتضى فض الإضرابات إلى أجل غير مسمى، كذلك قد يخبر الجنود وقادتهم رؤساءهم السياسيين بأنهم لم يلتحقوا بالقوات المسلحة لقيادة سيارات الإسعاف أو فحص جوازات السفر، وأنهم لا يرغبون فى أن يستاء منهم عدد ضخم من مواطنيهم الذين يقومون بإضراب سلمى قانونى أو من قبل عامة الناس الذين يتعاطفون إلى حد ما مع المضربين. وتشير استطلاعات الرأى إلى أن عامة الناس يواصلون دعم العمال المضربين، ففى استطلاع للرأى أجرته شركة أبحاث السوق «يوجوف»، قال 59٪ ممن شملهم الاستطلاع إنه يجب السماح لعمال السكك الحديدية ومترو الأنفاق بالإضراب، بينما عارض ذلك 30٪. وبالنسبة للممرضات، كانت النسبة 52% لصالح الإضراب، مقابل معارضة 38% للإضراب. وتأتى الإضرابات فى وقت يتّجه فيه الاقتصاد البريطانى لركود طويل الأمد، وذكرت الحكومة وكذلك بنك إنجلترا أنهما يعتقدان أن بريطانيا تشهد ركودا بالفعل يتوقع المصرف المركزى بأن يتواصل طوال العام المقبل.