بعض أصحاب الرأى يطالبون بإلغاء النص فى قانون العقوبات الذى يعتبر ازدراء الأديان جريمة جنائية عقوبتها الحبس، وهؤلاء يرون أن ما يعتبره القانون والقضاء ازدراء للأديان هو تعبير عن حرية الرأى، ويستندون إلى أن القرآن لم يتضمن آية صريحة أو ضمنية كفرض عقوبة على المخالفين أو حتى على الكافرين، ودعا المؤمنين إلى مبدأ «لكم دينكم ولى دين» فى سو رة «الكافرون».وهذا الموقف الذى يعتبر أصحابه أنهم ليبراليون ومن الداعين إلى الإصلاح الدينى يحتاج إلى مناقشة هادئة، أولًا لأن الليبرالية لا تتعارض مع العقائد الدينية، ولا تحاربها، ولا تسىء إليها، الليبرالية تدعو إلى الحريات بما فيها حرية الاعتقاد وهذا هو موقف الإسلام «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» والإسلام لا يدعو إلى فرض عقوبة دنيوية على الكفر، والعقوبة لهم من الله فى يوم الحساب. أما موضوع التجديد أو الإصلاح الدينى فهو لا يعنى أبدًَا الإساءة إلى الأديان، أو الحديث عنها باستهانة، والأساس فى ممارسة الحرية هو احترام حرية المخالفين بمعنى أن يحترم المؤمن كل من يخالفه فى العقيدة، وفىالمقابل على غير المؤمن أن يحترم عقائد المؤمنين ولا يستفز مشاعرهم، ومعلوم أن المشاعر الدينية تجعل الإنسان حساسًا لكل ما يمس عقيدته بسوء.. وعلى ذلك فإن من يريد أن يساهم فى التجديد أو الإصلاح الدينى فعليه أن يعمل ويتكلم فى حدود عقيدته دون أن يتعدى ذلك إلى الاعتداء على عقيدة غيره.. حريته أن يعتقد ما يشاء ويحترم حرية الآخر فى أن يعتقد ما يشاء.. ??? الملاحظ هذه الأيام ظهور عدد ممن يعتبرون أنفسهم من أصحاب الرأى والدعاة إلى الحرية والإصلاح، بعضهم يكتب فى الصحف ويؤلف الكتب، وبعضهم يجلس مجلس العلم والفتوى فى الفضائيات ويخوض فى أمور دينية هى من صميم اختصاص علماء الدين المؤهلين للحديث فيها بما لديهم من خلفية تسمح لهم بذلك، فالحديث فى الأمور الدينية سهل، لأن كل المسلمين يعلمون جانبًا من أمور دينهم، ولكن المعرفة شىء والاختصاص شىء آخر وهذا هو الموقف المبدئى للإسلام «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» وأهل الذكر هم الذين حفظوا القرآن ودرسوا تفسير كل آية فيه، ودرسوا الأحاديث وعلوم الفقه ودرسوا المذاهب الفقهية، وبعد ذلك يمكنهم أن يتحدثوا عن الصحيح وغير الصحيح فى أمور الدين. ??? الغريب أن الذين يعتبرون الإساءة إلى الأديان حرية رأى هم الذين ينتفضون غضبًا عندما تصدر الإساءة إلى الإسلام من مفكرين أو صحفيين أو رسامين فى الغرب، وهم لا يدركون أن استباحة الدين على يد أبنائه جريمة أكبر من استباحته فى غير المؤمنين به، وإن كان الهجوم على الإسلام وعلى علمائه وعلى الأزهر الشريف كمؤسسة وقفت بالمرصاد للدفاع عن الإسلام فى مواجهة أعدائه ونجحت فى الحفاظ على روح السماحة والاعتدال وهما جوهر الإسلام، هذا الهجوم الذى يظهر فيه العداء سافرًا أو يظهر مقنعًا بادعاء أنه حرص على الإصلاح والتجديد، كل ذلك ليس جديدًا، وقد تعرض الإسلام منذ ظهوره وإلى اليوم لحملات الإساءة والتشويه بدافع العداء أو بدافع الجهل أو بدافع ادعاء الشجاعة أو طلبا للشهرة. والإساءة إلى العقيدة الإسلامية وإلى علماء الإسلام فى الخارج هو عمل مدروس وتقف وراءه جهات وهيئات وجماعات وأجهزة تسعى كلها لوقف انتشار الإسلام وتتجاهل مبادئه التى تدعو إلى احترام حرية وكرامة الإنسان وترسى مبادئ العدل والأخلاق، وليس فى ذلك ما يدعو للدهشة، ولكن ما يدعو للدهشة أن يقوم مسلمون بهذا الدور لخدمة من؟ ومن أجل ماذا؟. لا يستطيع المسلم أن يمنع نفسه من الغضب عندما يجد من يسىء إلى دينه ويشوه صورة العلماء الكبار الذين يمثلون المرجع فى شئون الدين، والفرق واضح بين حرية الرأى وحرية التعبير وبين الإساءة والتشهير والاستهانة بأقدار وكرامات علماء لهم مكانتهم ولهم احترام عند المؤمنين. لقد تقدمت منظمة التعليم والثقافة الإسلامية (الايسسيكو» باقتراح إلى الأممالمتحدة لإصدار قرار يعتبر الإساءة إلى الأديان جريمة، وتتبنى منظمة التعاون الإسلامى هذا الاقتراح واعتبار الإساءة إلى الأديان مثل الإساءة إلى اللاسامية لأنه من غير المعقول أن تكون اللاسامية أكثر قداسة من الأديان السماوية، وصدر بالفعل قرار بذلك من الأممالمتحدة ولكنه قرار غير ملزم، ونذكر كيف تعرض المفكر الفرنسى الشهير رجاء جارودى للاضطهاد فى فرنسا بلد الحريات وحقوق الإنسان وتم تقديمه للمحاكمة وتعرض لصعوبات فى معيشته وانتقالاته لمجرد أنه شكك فى عدد ضحايا المحرقة من اليهود ولم ينكر حدوث المحرقة، فكيف يمكن السكوت على من يعتدى على حرمات الدين؟ ??? وإذا كان مرفوضًا أن تصدر الإساءة إلى الأديان من أفراد مهما كانت مكانتهم، فإن الرفض أقوى عندما تأتى الإساءة فى الإعلام، والإعلام هو الأكثر تأثيرًا فى تشكيل الرأى العام، والشباب هم الأكثر تقبلًا للآراء الغريبة والشابة بحكم ثقافتهم المحدودة وحبهم للمعرفة وبحثهم عن كل ما هو جديد وغريب، وفى نفس الوقت فإن معظم علماء الدين لا يجيدون فنون مخاطبة الرأى العام والتأثير فيه ويكتفون بعرض الآراء الدينية الصحيحة بأسلوب علمى لا يسهل فهمه على عامة الناس، وهذا باب من أبواب التجديد فى الخطاب الدينى يدعو إلى تدريس علوم الاتصال والإعلام فى إعداد علماء الدين والدعاة. والحجة التى يستند إليها المسيئون للدين هى وجود متحدثين فى الدين يرددون الآراء الغريبة والشاذة ويقدمون الفتاوى المثيرة مثل إرضاع الكبير وشرب بول الإبل وتحريم ما أحل الله واعتبار أن الأصل هو التحريم على خلاف القاعدة الأصولية بأن الإباحة هى الأصل والتحريم لا يكون إلا بنص فى القرآن والأحاديث الصحيحة، ومعلوم أن النص فى القرآن والأحاديث الصحيحة يمكن فهمهما وتفسيرهما مع تغير الزمان والمكان وهذا هو المعنى فى المبدأ المعروف بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، أى أن النص يجب فهمه على ضوء المستجدات فى حياة المسلمين، وما قاله الأقدمون هو قول بشر يؤخذ منه ويرد عليه وقابل للمراجعة والتعديل، فأقوال الأقدمين ليست لها قداسة، القداسة للنص الإلهى والنص النبوى الشريف، والفقه ليس جامدًا ويتعامل معه المجتهدون الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد وليس الهواة أو الأدعياء، وميراث الأمة من الفقه ثروة لا تمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها ولكن يمكن مراجعتها والإضافة والحذف على يد العلماء المتخصصين. أظن أن الإجابة واضحة: هل ازدراء الأديان جريمة؟ الإجابة:نعم، وهل يجب عقاب من يرتكبها؟ الإجابة: ليست هناك جريمة بدون عقاب، وهل ازدراء الأديان.. يدخل فى باب حرية الرأى؟ الإجابة: الازدراء والإساءة شىء والرأى شىء آخر.. الرأى فيه احترام وتوقير والاختلاف يلتزم بآداب الاختلاف وبضوابط الحوار وبأخلاق الإسلام.