«اقتصاديات الخراب».. هو المسمى الأقرب لما خلفته آلة الإرهاب الغاشمة التى تعمل ليل نهار فى مختلف الأقطار، لا تفرق فى ذلك بين دين أو مذهب، أو جنسية، فالجميع أهداف مشروعة، والرقاب التى تتطاير هنا أو هناك لا يهم إلى أى دولة تنتمى، أو أى دين تعتنق. لكن تدفع منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها العالم العربى، فاتورة باهظة لهذا الإرهاب، ومنذ عام 2001 وعقب أحداث الحادى عشر من سبتمبر هبت ريحٌ عاصف.. تحيط بسفينة أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج، ورائحة الموت تفوح من أقطار عدة، وكلما خبت وجدت من يزيدها سعيرًا، فالمنطقة تشهد اقتتالا وصراعات بصورة غير مسبوقة لكن الجديد هذه المرة أنّ هذا الكم الهائل من الدمار والخراب ونسف القيم والأعراف والإبادة الممنهجة للشعوب، يتم بأيدى أبناء المنطقة التى أعيت الغزاة والمستعمرين على مدار عقود، وخرجوا منها مهزومين، يجرون أذيال الخيبة والحسرة.وإلى جانب المعاناة الإنسانية التى تركت جروحا غائرة فى جسد العالم العربى، نجد أن ثمة خسائر اقتصادية فادحة، لا تستثنى أحدا، وكلما حاولت دولة أن تنهض من كبوتها جاءها «الموت من كل مكان» فى صورة عمل إرهابى جبان، يعطل خطط التنمية، ويزيد من نكد الحياة ومشقتها، وفى المقابل يصب فى صالح أطراف أخرى، فتنتعش تجارة السلاح، ويتم الإعلان عن مليارات الدولارات التى تصب فى خزانة «تجار الموت» فتنعش اقتصادها، وتوفر فرص عمل لمواطنيها، وتدور ماكينات الإنتاج بها دون توقف. ولأن حديث الأرقام أصدق أنباء من أى كلام فإن تكلفة الإرهاب العالمى، قد ارتفعت عشرة أضعاف جملة واحدة منذ العام 2000 وحتى العام 2014 لتصل إلى 52.9 مليار دولار بحسب إحصاءات مركز الاقتصاد والسلام الأمريكى، تكبد الشرق الأوسط منها أكثر من الثلثين. وتتمثل هذه الخسائر فى تدمير البُنى الأساسية، والمرافق العامة، وكلفة علاج المصابين، وتعويض القتلى الذين بلغ عددهم فى العام الفائت فقط 32700 شخص قتلوا فى هجمات إرهابية فى جميع أنحاء العالم خلال، وهو ضعف عدد ضحايا الإرهاب فى عام 2013. لكن التقرير الأمريكى لم يرصد لنا مثلا كم خسر العراق جراء بيع تنظيم الدولة الإسلامية للنفط فى «السوق السوداء» عبر سماسرة دوليين، حتى بلغت ثروة التنظيم فى فترة وجيزة 6 مليارات دولار، وهو رقم كبير حرمت منه موازنة الدولة العراقية. الأمر ذاته يتكرر فى سوريا التى يسيطر فيها تنظيم الدولة على معظم الآبار النفطية، التى يستخرج منها الديزل والبنزين والغاز، بطرق بدائية، ويبيعها «بثمن بخس» عن طريق عصابات التهريب عبر الحدود التركية، ويقوم من خلال هذه العائدات بدفع رواتب مقاتليه التى تصل إلى 400 دولار شهريا للمقاتل السورى و700 دولار للمقاتل الأجنبى. ومن بين اقتصاديات الخراب التى يتبناها التنظيم تجارة وتهريب الآثار العراقية والسورية ذات القيمة التاريخية والتى تحظى بإقبال شديد من عشاق الآثار فى أوروبا وأمريكا. خسائر غير مباشرة ولا تتوقف الخسائر جراء الإرهاب الغاشم على الممتلكات والأرواح، فهناك أضرار وآثار غير مباشرة، ويصعب حسابها بدقة، ومن ذلك مثلا فقد حرمت الهجمات الإرهابية فى لبنان هذا البلد من أحد أهم روافد الاقتصاد الوطنى وهو السياحة، وفقدت بيروت نحو 40% من عدد زائريها الذين انخفض عددهم من مليونين و300 ألف عام 2010 إلى نحو مليون 300 ألف فى العام 2014 بفعل العمليات الإرهابية وتوترات دولة الجوار سوريا. الأمر ذاته تعانى منه مصر، فكلما رفع قطاع السياحة هامته متخذا وضع النهوض جاءت حادثة عابرة لتعيد الأمور إلى المربع صفر، فمع بداية موسم السياحة فى الأقصر وأسوان جاءت حادث إطلاق نار فى أحد المعابد التاريخية، لتخلف وراءها فراغا فى عدد السائحين، وتراجعا فى نسبة الحجز بالغرف الفندقية، وبعدها بقليل جاء حادث الطائرة الروسية فى شرم الشيخ، والذى ترك المدينة خلال ساعات من الحادث وكأنها «مدينة أشباح»، وهوت مدخولات السياحة بصورة مفاجئة، وحتى الآن لم تفلح قوافل دعم السياحة فى إنقاذ الموقف. وعلقت الكثير من المحال فى شرم الشيخ لافتات «للإيجار أو البيع»، وتواكب مع ذلك حالة من السعار أصابت العملة الخضراء، حيث ارتفع الدولار بصورة غير مسبوقة فى السوق السوداء نتيجة قلة الوارد منه عبر قطاع السياحة. وفى اليمن انسحبت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وسحبت معظم المؤسسات التجارية المحلية مدخراتها من المصارف المحلية، وتقدر الأموال التى نزحت بنحو 10 مليارات دولار على أقل تقدير، جميعها هاجرت إلى الخارج للبحث عن بيئة استثمارية آمنة. وغادرت نحو 80% من الاستثمارات الأجنبية المتوسطة و90% من الاستثمارات الكبيرة اليمن، وهذا بالطبع يضاعف من حدة أزمتى الفقر والبطالة، ويشكل ضغطاً كبيراً على اقتصاد هش وصغير مثل الاقتصاد اليمنى الذى يحتاج إلى الاستقرار السياسى والأمنى، وتنشيط العملية الاستثمارية وتوفير مناخ مناسب من أجل التخلص من مشاكل اليمن الاقتصادية المزمنة. الشمال الإفريقي وفى ليبيا، وبحسب مسئولين حكوميين فإن خسائر فادحة للقطاع النفطى بلغت 60 مليار دولار خلال العامين الماضيين، منها 30 مليار دولار فى الإيراد العام والباقى فى التشغيل، وذلك بسبب الفوضى الأمنية والصراعات المسلحة التى أثرت سلباً على الحقول النفطية، بالإضافة إلى تراجع الأسعار عالمياً. كما أن عمليات إغلاق الموانئ النفطية من عام 2013، وحتى يونيو من عام 2014، ساهمت بشكل كبير فى تدنى الإيرادات النفطية، وتم ذلك نتيجة تدخل أطراف خارجية بمساعدة أطراف أخرى داخلية، ونتج عنها انخفاض الإيرادات النفطية التى تشكل 95% من مصادر دخل الموازنة العامة فى ليبيا. وبرغم أن ليبيا تملك احتياطات كبيرة من العملات الأجنبية، التى بلغت 119 مليار دولار عام 2013، متراجعاً بنحو 5 مليارات دولار عن عام 2012، إضافة إلى 116 طناً من الذهب، كما بلغت أرصدتها فى الخارج أكثر من 110 مليارات دولار، إلا أن الخلل فى الإنتاج النفطى، وزيادة النفقات الحكومية، قد يستنزفان الاحتياطى النقدى فى أقل من خمس سنوات. ومن ليبيا إلى جارتها تونس، والتى تكبد اقتصادها خسائر بلغت 5 مليارات دولار وذلك بسبب تواصل الصراعات على حدودها مع ليبيا. وتعود هذه الخسائر إلى انخفاض قيمة الاستثمار التونسى فى ليبيا وإغلاق عدة مؤسسات تونسية عاملة هناك بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة بين التونسيين بعد أن اضطر الآلاف منهم لترك وظائفهم بمختلف المناطق الليبية ومغادرتها باتجاه تونس. كما تراجعت المبادلات التجارية المنظمة فى مقابل تنامى ظاهرتى التهريب والتجارة غير المنظمة بين البلدين. سباق التسلح وكنتيجة مباشرة لتزايد العمليات الإرهابية العابرة للحدود اضطرت دول الشرق الأوسط تحديدا إلى زيادة إنفاقها على التسلح من أجل تحديث ترسانتها العسكرية استعدادا لأية طوارئ وطرأت زيادة على الإنفاق العسكرى الكلى فى الشرق الأوسط بمقدار 57% خلال السنوات العشر الأخيرة، وساعد على زيادة التسلّح فى تلك الفترة تعدد بؤر الصراع والنزاع والحروب، ويُلاحظ أن كلًّا من لبنانوالعراق زادا من نفقاتهما بنسبة 15%، ووصلت المبالغ المرصودة لشراء الأسلحة فى عام 2014 مبلغ 196 مليار دولار فى منطقة الشرق الأوسط ككلّ، علمًا بأن الإنفاق العسكرى لإسرائيل انخفض بمقدار 8% فى 2014 مقارنة بالعام السابق. وتوقع مسئولون فى الصناعة العسكرية الأمريكية تلقّى طلبيات لشراء آلاف الصواريخ والقنابل وغيرها من الأسلحة أمريكية الصنع، وذلك من قِبلِ الحلفاء العرب الذين يقاتلون الدولة الإسلامية فى العراق والشام، يشمل ذلك: المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر والبحرين والأردن، بغية تجديد الترسانة التى كانت تتعرض للنضوب خلال العام الماضى. من المستفيد؟ هذا الخراب الاقتصادى الكبير الذى يسدد فاتورة شعوب ودول العالم الثالث من أقواتهم يدعونا قبل اختتام هذا التقرير لنتساءل عن المستفيد من جراء إشعال الفتن، وتأجيج الصراعات، وصب مزيد من الزيت على نيران الاقتتال الداخلى؟ لقد اختصر الكاتب والمحلل الأمريكى توماس فريدمان الإجابة بقوله: «إن الولاياتالمتحدة تقوم فى أحيان كثيرة بإشعال الحروب لتضمن لمصانع سلاحها الاستمرار بضخ المليارات سنويًّا، بالطبع ضخ مليارات هائلة سينعش الاقتصاد الأمريكى.. داعش قصفت فى يوم واحد صواريخ توماهوك تصل قيمتها إلى 66 مليون دولار، هذا المبلغ الضخم كان يستطيع أن يقضى على وباء الإيبولا حول العالم». ومثل الولاياتالمتحدةالأمريكية تفعل الكثير من الدول المتقدمة ومنها ألمانيا، وفرنسا، وروسيا، وغيرها من أجل إنعاش الخزانة لديها بعد الكساد الذى ضرب العالم فى العام 2008، وتراجع مبيعات السلاح لمنطقة الشرق الأوسط بعد توقف الحرب بين إيرانوالعراق، ثم توقف الحرب الأمريكية فى العراق وأفغانستان. وحينما نمعن النظر فيما يجرى بالمنطقة العربية هذه الأيام، يصعُب علينا استبعاد أصابع «الفوضى الخلاقة» التى ابتدعتها الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس بوش الابن لتعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط ليس عبر التفاهمات بين مكوناتها، بل عبر تغيير قسرى محمول على أسنة رماح الفتن الطائفية وإثارة النعرات المفضية إلى الحروب الأهلية التى لا تبقى ولا تذر.. وأصبح جليا كيف أنّ تطبيق هذا المفهوم «الفوضى الخلاقة» أثمر خرابًا فى العراقوسوريا وليبيا، وها هو اليمن فى الطريق.. جاء الغزو الأمريكى للعراق فى العام 2003 تحت شعارات براقة كالديمقراطية والليبرالية ووأد الديكتاتورية، وعندما ننظر الآن إلى حال العراق ندرك أى نوع من الأمنيات أو بالأحرى المؤامرات، كان يُضمرها المحتل لبلاد الرافدين!! لقد دشَّن الغزو الأمريكى للعراق مرحلة جديدة من تدمير المُجتمعات العربية ودخولها فى نفق مظلم من النزاعات المسلحة والحروب الطائفية التى لا أمل فى إطفائها بالمستقبل القريب.. حرب النفوذ ومن المعروف أنّ حرب النفوذ الدائرة بين الدول الكبرى فى العالم، وصراعها على مناطق الثروات، يجعلها تلجأ إلى وسائل وأساليب غير محدودة لإلحاق الضرر بالمنافس، ومن ذلك استهداف مواقع الثروة بالفتن والحروب، ويمكن تفسير جانب من تردى الأوضاع فى اليمن، على سبيل المثال بالتنافس الأمريكى الصينى الروسى، حيث إنّ كل هذه القوى تطمع فى موطئ قدم راسخ بهذه المنطقة الاستراتيجية من العالم. وفى السياق لا يمكن أن نتجاهل دور الصهيونية العالمية فى تأجيج الصراعات والحرب فى منطقتنا فلم يعد خطر الصهيونيةِ اليوم، مقصورا على الفلسطينيين والعرب فقط، بل على الشعوب الغربية نفسها التى تستخدم ثرواتها فى الدمار والحروب تحت ذرائع مختلفة.. فغزو العراق كلّف الولاياتالمتحدةالأمريكية أكثر من ترليونى دولار ودفعها إلى هاوية أزمة اقتصادية حادة لم تتعاف منها حتى الآن، وهذا الغزو لم يكن لصالح الولاياتالمتحدة بل لخدمة مصلحة إسرائيل فى المقام الأول.. ومن هنا فإنّ هيمنة اللوبى الصهيونى على العالم تشكل خطرا مرعبا كونها تدفع العالم نحو المزيد من الكوارث والحروب عبر أكاذيب وذرائع تدفع ثمنها الشعوب المغلوب على أمرها. وفى الختام فإن هذه الصراعات والحروب التى تجرى بالتزامن وبنفس المنهجيّة وأدوات التأجيج، تجعلنا نوقن بأمرين: الأول: أن الفاعل والمستفيد من هذه الفوضى العارمة والخراب الاقتصادى هى جهة واحدة تسعى للسيطرة على العالم عبر إقرار نظام عالمى جديد لإتاحة المجال ل «حكومة عالميّة» تدير هذا الكون وفق رؤية موحدة، وأهداف استراتيجية تمّ العمل عليها لسنوات. الثانى: أننا حتى اللحظة كعرب ومسلمين لا نزال نغط فى سبات عميق، غير مدركين لخطورة اللحظة التاريخية وتداعياتها المستقبلية على الأجيال القادمة؛ بل إنّ البعض منا يساهم سواء عن دراية أو جهل فى تمرير مثل هذه المخططات التدميرية للمنطقة عبر الدعم المالى أو الإعلامى أو حتى توفير الغطاء السياسى لمثل هذه العناصر الجهاديّة شديدة التطرف.