تأثيرات سلبية عديدة أسفرت عنها العمليات الإرهابية التى شهدتها العاصمة الفرنسية باريس، بداية الأسبوع الماضى، لعل أهمها الإجراءات الأمنية المشددة التى اتخذتها فرنسا، والتى قد تؤثر على أوضاع ذوى الأصول العربية والمسلمين، وأيضا المهاجرين، بخلاف تكثيفها لضرباتها الجوية على تنظيم داعش الإرهابى فى سوريا والتى يتأثر بها وتصيب آلاف المدنيين العزل، ولكن يبقى الجانب الاقتصادى هو الأكثر تأثرا بتلك العمليات الإرهابية ليس فى فرنسا فقط وإنما فى العالم كله خاصة العربى ومصر، الأمر الذى يطرح التساؤلات بشأن حجم هذا التأثير وتداعياته على الاستثمارات وحركة التجارة القائمة والمرتقبة فى المنطقة، خاصة أن اقتصادنا يعانى الكثير من المشكلات التى تشكل تحديات تسعى الحكومة والقيادة السياسية لعلاجها.بداية أشارت دراسة أعدها الباحث فى الدراسات الاقتصادية إبراهيم إبراهيم الغيطانى، إلى أنه على الرغم من أن الوقت سابق لأوانه لمناقشة التداعيات الاقتصادية المحتملة للأحداث الإرهابية التى تعرضت لها العاصمة الفرنسية باريس فى 13 نوفمبر الجارى، لكن ثمة ضرورة لبلورة إنذار مبكر، لمعرفة حدود تأثيرات تلك الهجمات على آفاق العلاقات الاقتصادية بين دول الشرق الأوسط وفرنسا، لاسيما أن المصالح الاقتصادية الفرنسية متنامية بالمنطقة وتتمتع بالثقل كشريك تجارى وتعد من كبار المستثمرين الخارجيين، وهى عوامل لا ترجح بقوة سيناريوهات تأثر آفاق التعاون الاقتصادية المستقبلية بين الجانبين سلباً، بينما فى المقابل، تدور التكهنات أن الحادث الإرهابى الأخير سيقود إلى مزيد من تقييد حركة الأفراد من منطقة الشرق الأوسط إلى فرنسا، وهو ما قد يفرض قيودا جديدة أمام استقبال فرنسا للاجئين السوريين وكذلك السياح الوافدين من دول المنطقة، كما قد تخضع حركة السياحة الفرنسية الوافدة للمنطقة لنوع من التقييد بدورها أيضاً فى ضوء المخاوف الأمنية الأخيرة. تنامى المصالح وأشار إلى أنه على مستوى المصالح الاقتصادية الفرنسية بمنطقة الشرق الأوسط، فقد تنامت تلك المصالح على مدى السنوات الماضية سواء على الصعيد التجارى أو الاستثمارى، موضحا أن النفط شكل جانبا مهمًا فى التبادل التجارى بين فرنسا ومنطقة الشرق الأوسط، فى عام 2013 إذ استوردت فرنسا 37.6% من احتياجاتها من النفط الخام من منطقة الشرق الأوسط، وتعتمد بشكل رئيسى على الواردات النفطية القادمة من السعودية وليبيا والجزائر والعراق. بصفة عامة، شهدت العلاقات التجارية بين فرنسا والبلدان الشرق أوسطية نمواً على مدار السنوات الخمس الماضية، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بين فرنسا ودول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وباكستان وأفغانستان نحو 73.6 مليار دولار فى عام 2014 مقارنة بنحو 69.7 مليار دولار فى عام 2010. وأضاف: على وجه خاص، تسارع التبادل التجارى بين منطقة الخليج وفرنسا منذ عام 2010، ووصل بحسب ما تشير إليه بيانات صندوق النقد الدولى إلى 24.7 مليار دولار فى عام 2014، مع العلم أن الميزان التجارى بين الجانبين يميل لصالح فرنسا، ففى حين بلغت الصادرات الخليجية إلى الأسواق الفرنسية نحو 11.8 مليار دولار، سجلت الصادرات الفرنسية 12.8 مليار دولار. والظاهرة الأكثر بروزاً فى هذا السياق أن السعودية استحوذت وحدها على نحو 53% من حجم التجارة المشتركة فى عام 2014. فرنسا المستثمر الكبير وأوضح الغيطانى، أنه إضافة إلى المصالح التجارية بين الجانبين، تأتى فرنسا كثالث أكبر مستثمر أجنبى فى الشرق الأوسط، وما تظهره البيانات أنه خلال الفترة من 2003-2012، ضخت فرنسا استثمارت مباشرة بقيمة 58 مليار دولار، وهو ما يمثل 6.2% من إجمالى الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى المنطقة خلال هذه الفترة، مع العلم أن هناك 42.5% من هذه الاسثتمارات توجهت إلى القطاع النفطى. واستقطبت المملكة العربية السعودية وحدها على 16 مليار دولار، وبما يوازى 27.5% من إجمالى الاستثمارات، تليها المغرب وقطر بنحو 10 مليارات دولار، و7 مليارات دولار على التوالى. بينما تليها كل من الجزائر والإمارات 6 مليارات دولار و5 مليارات دولار على الترتيب. فى المقابل أيضاً كانت فرنسا وجهة رئيسية لاستثمارات الشرق الأوسط الخارجية وبصفة خاصة الخليجية منها، مضيفا: بحسب تقديرات مسئولى اتحاد غرف دول مجلس التعاون الخليجى وصل رصيد الاستثمارات الخليجية المباشرة فى فرنسا 5.5 مليار دولار فى عام 2013. الصادرات العسكرية وأشار الباحث فى الشئون الاقتصادية إلى جانب آخر من التعاون المشترك بين فرنسا والشرق الأوسط، وهو الجانب العسكرى، وفى هذا الصدد قال فى إطار تنويع مشترياتها العسكرية بجوار اعتمادها على السوق الأمريكى والروسى، اتجهت دول المنطقة لعقد صفقات شراء العتاد العسكرى من الجانب الفرنسى على مدار العقد الماضى، بناء عليه جاءت فرنسا من بين أكبر الموردين الرئيسيين للأسلحة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبحسب إحصاءات وزارة الدفاع الفرنسية شكلت صادرات الأسلحة لمنطقة الشرق الأوسط خلال الفترة 2010-2014 ما نسبته 38% من إجمالى الصادرات العسكرية الفرنسية. وقال الغيطانى، إنه بناء على الحقائق السابقة يتضح أن المصالح الاقتصادية بين الجانبين تتجاوز مجرد آفاق التعاون الاقتصادى التقليدى وتمتد إلى مجالات استراتيجية، ما يجعلنا نستبعد نسبياً أن تتأثر المصالح الاقتصادية بشكل مباشر وحالى، إلا أنه استطرد قائلا: فى نفس الوقت هذا لا يمنع أن الأحداث الإرهابية الأخيرة والتى أعلن داعش مسئوليتها عنها قد تثير مخاوف لدى السلطات الفرنسية باستهداف مصالحها بدول المنطقة، بجانب أنه من المرجح أن تكون قضية اللاجئين وحركة الأفراد من منطقة الشرق الأوسط لفرنسا محل إعادة نظرة للسلطات الفرنسية الفترة المقبلة. مستقبل العلاقات الاقتصادية مع مصر على مستوى تأثر العلاقات المصرية الفرنسية، يؤكد سيد أبو زيد رئيس مجلس إدارة المجموعة الاستشارية الفرنسية للاستثمار، وخبير الاستثمار الأجنبى بباريس، أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين مصر وفرنسا، شهدت نمواً ملحوظا منذ بداية الثمانينيات، إذ تعتبر فرنسا من أهم المستثمرين فى مصر وأحد أهم الأسواق التصديرية للمنتج المصرى. أضاف: كما تلعب فرنسا دورا مهمًا فى تمويل المشروعات التنموية المهمة فى مصر، وتشير البيانات الرسمية إلى أن مصر حصلت منذ عام 1974 حتى 2008 على ما يقرب من 27.9 مليار فرنك فرنسى بالإضافة إلى 755.75 مليون يورو، من خلال 40 بروتوكولا لدعم التنمية الاقتصادية فى مصر وتمويل مشروعات فى مجالات النقل، والصناعة، والكهرباء، والطيران المدنى، والإسكان، والصحة والزراعة والتعليم، وتبلغ عدد الشركات الفرنسية حوالى 646 شركة فرنسية برأسمال 6.7 مليار دولار، وكذا إلى حجم التبادل التجارى الذى وصل إلى حوالى 3.1 مليار دولار فى 2013. وتابع: كل تلك النتائج والأرقام تؤكد أن الاستثمارات الفرنسية فى مصر لن تتأثر بالأحداث الأخيرة التى شهدتها باريس مؤخرا، أو حتى التى شهدتها مصر فى أعقاب سقوط الطائرة الروسية على أرض سيناء، نهاية شهر أكتوبر الماضى، وليست لها أى علاقة بالاستثمارات المستقبلية التى تعتزم فرنسا ضخها فى مصر، لأنه وببساطة شديدة رأس المال يبحث عن الفرص والأرباح والبيئة المناسبة. مصر بيئة جاذبة وأوضح أبو زيد أن مصر تمثل بيئة جاذبة للاستثمارات الفرنسية، خاصة فى ظل وجود العديد من الشركات الفرنسية التى عملت وحققت النجاحات فى مصر، الأمر الذى يمثل قاعدة لانطلاق غيرها من الشركات التى تبحث عن فرص، مشيرا إلى أن مصر تتمتع أيضا بميزة جاذبة يصعب إغفالها وهى كونها بوابة للاستثمارات الفرنسية إلى قارة أفريقيا التى تتعطش للاستثمار فى كافة القطاعات. ورأى خبير الاستثمار الأجنبى بباريس، أن مصر على الرغم مما قامت به خلال العامين الماضيين من محاولات لإصلاح البنية التشريعية الاقتصادية، وإيجاد آليات لحل النزاعات الاستثمارية فإنه مازال لديها الكثير من المعوقات التى تبحث عن آليات لتذليلها أهمها، عدم وجود دراسات جدوى بمشاريع حديثة واضحة المعالم، لعرضها على الدولة الفرنسية ككيان كبير، مطالبا بتشكيل مجموعة استشارية من الخبراء المصريين، الذين درسوا واكتسبوا خبرات دولية بالخارج، تكون مهمة تلك المجموعة التواصل مع الجانب الأجنبى وعرض الفرص أمامه بشكل علمى مدروس لجذب الاستثمار الأجنبى، بالطريقة التى تناسبه، ومن وجهة النظر الجاذبة له. فن الجذب وأكد أبو زيد، أن عملية جذب الاستثمار هى فن ومهنة تقوم على تعميق الترابط بين المستثمر الأجنبى ونظيره المحلي، وتضع الأسياسات التى تفتح الطريق للاستثمار بكل سهولة. واتفق مع الرأى السابق حسن بهنام، عضو مجلس إدارة غرفة التجارة الفرنسية بالقاهرة، والذى شدد على أن تفجيرات باريس الإرهابية لن تؤثر على حركة التجارة والاستثمارات الفرنسية فى مصر. وأشاد بهنام بمستوى العلاقات بين السياسية والاقتصادية والتجارية بين القاهرةوباريس، مؤكدا أنه حتى هذه اللحظة لم يتم إلغاء أو إرجاء أى اتفاقيات تجارية أو استثمارية لفرنسا فى مصر، وأضاف: إلغاء أو تأجيل أى استثمارات أو طلبات استيراد أو تصدير معناه الاستسلام للإرهاب، مستبعدا فى الوقت ذاته أى تأثير لهذه الحادث الإرهابى على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. وأوضح بهنام، أن الفرنسيين لديهم رغبة جدية فى الاستثمار فى مصر فى مشروعات تنمية محور قناة السويس و«مدينة المطار»، وفى قطاعات الطاقة والبنية التحتية والسياحة، مشيرا إلى أن الاستثمارات الفرنسية فى مصر قفزت إلى 4.3 مليار يورو تمثل نحو 4.9 مليار دولار، وبلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين حوالى 3 مليارات دولار فى 2014، منها 1.8 مليار صادرات فرنسية لمصر مقابل 1.2 صادرات مصرية لباريس. استثمار الفرص أما الدكتور فخرى الفقى الخبير الاقتصادى والمستشار السابق بالبنك الدولى، فقد أوضح أن الإجراءات الأمنية التى اتخذتها فرنسا فى أعقاب الحوادث الإرهابية التى شهدتها باريس الأسبوع الماضى، هى إجراءات تستهدف فى المقام الأول حماية أرواح الفرنسيين، بعد الخسائر البشرية التى تعرضت لها نتيجة الهجمات. وتوقع الفقى، عدم وجود تأثيرات سلبية، على حركة التجارة والاستثمار بين القاهرةوباريس، مشيرا إلى أن هناك استثمارات فرنسية، تعمل فى مصر باستقرار منذ ثمانينيات القرن الماضى، لعل أبرزها مشاركة الجانب الفرنسى، فى إقامة مشروع مترو الأنفاق بخطوطه الثلاثة العاملة الآن، وخطيه الرابع والخامس المزمع إقامتهما خلال السنوات القادمة لربط المدن الجديدة بالعاصمة، مشيرا إلى أن إقامة الجامعة الفرنسية بالقاهرة، كصرح تعليمى يؤكد استمرار حرص باريس على علاقتها الاستراتيجية والممتدة بالقاهرة. وأشار الفقى إلى أن الاستثمار لا يبحث إلا عن الفرص والمكاسب، وهو ما يتوافر الآن فى مصر، فى ظل مناخ سياسى مستقر إلى حد كبير، مقارنة بدول المنطقة المحيطة، إضافة إلى حرص القيادة السياسية على تثبيت دعائم الدولة ومؤسساتها، والسعى لإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم، مشيرا إلى أن مصر تتمتع بفرص استثمارية هائلة، وعوائد مرتفعة على الاستثمار، تكاد تكون الأعلى فى العالم، وسوق استهلاكية كبيرة تتجاوز ال90 مليون مستهلك، إضافة للموقع الجغرافى الذى يجعلها بوابة لإفريقيا. كلها معطيات تجعل من الاستثمار فيها فرصة يسعى الجميع لاستغلالها. وكشف فؤاد يونس رئيس مجلس الأعمال المصرى الفرنسى عن ضخ استثمارات فرنسية جديدة بالسوق المصرى تبلغ نحو 600 مليون يورو خلال العام المقبل فى مجال الطاقة الجديدة والمتجددة، مشيرا إلى أن الحادث الإرهاب فى فرنسا وحادث الطائرة الروسية بسيناء يحولان فى الوقت الحالى من تدفق السياحة الفرنسية للسوق المصرى. وأضاف: الإرهاب ليس فى منطقة بعينها ولا يرتبط بدولة وإنما ما يحدث حاليا هو إرهاب دولى ويحتاج إلى جبهة دولية لمحاربته. السياحة الأكثر تأثرا فى نفس الاتجاه أشارت الدكتورة راندة العدوى، خبير الاستثمار السياحى، إلى أن السياحة من أكثر القطاعات تأثرا بحوادث الإرهاب، فى العالم، حيث تتسبب حالة الهلع والخوف فى إحجام الأشخاص عن السفر، مضيفة: ما شهدته باريس مؤخرا من أحداث عنف لن تكون الحادثة الأخيرة فى أوروبا لأن الإرهاب سينال الجميع حتى الدول التى تسانده وتدعمه لن تسلم منه، وعلى العالم أن يعى الدرس جيدا فمحاربة الإرهاب لن تكون أحادية ولن تقوم بها دول بمفردها وتفجير باريس سيترك أثارًا سلبية على السياحة فى فرنسا لفترة طويلة. وأشارت العدوى إلى أن السياحة فى مصر تأثرت سلبا، قبل أحداث فرنسا وتحديدا منذ سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، الأمر الذى يتطلب اتخاذ آليات جديدة لتشجيع السياحة الداخلية للحد من خسائر القطاع السياحى المصرى، ومعاونته على الخروج من أزمته، مشيرة إلى أن التناول الإعلامى الداعم لمصر ضئيل وسطحى ولا يتناسب مع ما تواجهه من أزمة تتطلب تضافر الجهود وإخلاص النوايا، من الجميع، وليس التعامل على أننا مذنبون ومقصرون. ودعت خبيرة الاستثمار السياحى، إلى مؤتمر عالمى ترعاه «الأممالمتحدة» يضم كل الدول المعنية بالسلام على وجه الكرة الأرضية ويطرح فيه رؤية حقيقية لمحاربة الإرهاب فى كل أنحاء العالم بداية من الشرق الأوسط وانتهاء بدول أوروبا، ويتم الكشف خلاله عن الدول التى تدعم وتمول العناصر الإرهابية، مؤكدة أن أمن العالم أصبح مخترقا فلا توجد دولة عربية أو إفريقية أو أوروبية استطاعت أن تنقذ نفسها من نيران الإرهاب الذى يدفع فاتورته المسالمون قبل الأجهزة الأمنية وكانت فرنسا آخر هؤلاء.