قبل ثورة يناير 2015 كانت المواقع الإلكترونية لبعض الجهات المانحة الغربية تنشر بيانات شبه تفصيلية عن المنح والتمويلات التى تدفعها للمؤسسات والمراكز والناشطين المدنيين فى مصر.. كانت المبالغ مذكورة بالأرقام والعملات من الدولار الأمريكى إلى نظيره الكندى إلى اليورو وحتى الين اليابانى. وكانت النشاطات الموجهة لها هذه الأموال معروفة للمسئولين الحكوميين والإعلاميين والصحف الخاصة والحزبية (إلا قليلا) التى تهاجم كل نشاط إلا النشاطات المتعلقة بهذه التمويلات، وأحيانا كانت الصحافة القومية تنشر على استحياء أو تتغاضى عن جهل.. أما الأجهزة السيادية والأمنية والوزارة المسئولة عن الكيانات الممولة الممثلة فى وزارة التضامن فقد كانت أيديها مغلولة ورقابتها معطلة بفعل فاعل عن الجهات والأفراد الذين يتلقون هذه التمويلات لأن رأس الدولة لا يريد أن يغضب السيد الأمريكى حتى يرضى عن انتقال السلطة من الحاكم للوريث.(1) الوزيرة فايزة أبو النجا أشهر وأجرأ وزيرة قبل الثورة وبعدها لمدة قليلة كانت تقريبًا المسئولة الوحيدة التى قاومت ما استطاعت هذا النوع من التمويلات المشبوهة والتى كان جزءا منها يذهب بشكل فاجر وعلنى لكيانات وأشخاص مصريين تستروا خلف وصف المعارضة ومسميات لمراكز حقوقية وكان جزءا آخر من هذه التمويلات يذهب لمراكز أجنبية تعمل بدون ترخيص على الأراضى المصرية، وفى هذا الصدد نذكركم بالمعهدين الديموقراطى والجمهورى اللذين جاءا إلى مصر للتخديم على أجندة الربيع العربى واشتريا كثيرين بأموالهما واستقطبا شبابا مصريا ودربوه فى الداخل والخارج على أنشطة انقلابية وتجسسية، وكان بعضهم يدرك أنه يرتكب إثما فى حق الوطن لكنهم لم يقاوموا الإغراء، وآخرون منهم كان مغرر بهم فالعناوين فى الظاهر تخدم أهدافا نبيلة مثل الديموقراطية والتغيير السلمى لحكم الديكتاتوريات العربية ومراقبة الانتخابات إلخ، أما الحقيقة فقد كانت أبعد ما تكون عن النبل وما كانت تهدف إلا لخلق أفراد من الشباب فى دوائر تحمل فيروسات الفوضى حتى يبثها في دوائر ومحيطات أوسع يؤثر فيها هذا الشباب بعد أن يتأثر هو نفسه، والدوائر المقصودة مجتمعية مثل الزملاء والأصدقاء والأقارب وباقى الدوائر المكونة للمجتمع المصرى. (2) كان هذا قبل ثورة يناير، وخلالها وبعدها انتبهت الدولة المصرية عندما ظهرت نتائج الحقن الفيروسى والتحريض والحشد نحو الفوضى وأفعال إسقاط الدولة «بعد إسقاط النظام القائم»،.. وبعد الانتباه والإدراك من الدولة وخلال فترة حكم المجلس العسكرى الانتقالية تمت مهاجمة بعض هذه المراكز والهيئات الأجنبية والمصرية التى تتلقى التمويلات غير المقننة والتى تمارس أنشطة مشبوهة تهدد الأمن القومى المصرى ، وهذه حقائق وليست أوهاما كما يحاول البعض أن يوهم المصريين بذلك دفاعا عن مصالحه، وتم أيضا تقديم المسئولين عن هذه الكيانات للقضاء لمحاكمتهم، وبغض النظر عما حدث فى هذا الشأن الأخير وقد كانت له حساباته المتعلقة بظروف المرحلة فإن ما حدث بشأن هذه الكيانات كان إيذانًا بضبط هذا السوق المنفلت. وعندما قررت الدولة المصرية سن قانون لرقابة وضبط الأموال التى تأتى من الخارج للمجتمع المدنى عارض كثيرون القانون وحاولوا تفريغه من مضمونه والحقيقة أنه لم يعجبهم أن تتخذ الدولة مثل هذه الإجراء لأنه هذا معناه أنها تضيق عليهم وتغلق أمامهم مغارة على بابا التى كانوا يغرفون منها الذهب والفضة ويكنزونهما فى خزائن البنوك، وأضطر هنا للاستدراك فأقول، لكن كل ما حدث سابقا من إجراءات لم يمنع بعض المتمولين من تلقى التمويلات، وقد عرفت فى الفترة القليلة الفائتة على سبيل المثال وليس الحصر أن مركز دعم التنمية للتدريب والاستشارات الذى تترأسه هالة شكر الله وريثة د.محمد البرادعى فى رئاسة حزب الدستور تلقى (مركزها) مبالغ مالية من جهات أجنبية تتراوح ما بين 120 إلى 150 ألف دولار بحجة أنها موجهة لتنفيذ ما أطلق عليه برامج تنموية، ومن أبرز الجهات التى قدمت ل «شكر الله» ومركزها التمويلات كانت هيئة المعونة الأمريكية، بالإضافة إلى جهات دبلوماسية أخرى. وتلقى أيضا د. إيهاب الخراط القيادى بالحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعي تمويلات على خلفية إنشاء مركز لعلاج الإدمان يحمل اسم «NT» أو حياة أفضل وهذا المركز (كما جاء فى عدد جريدة البوابة الصادر فى 2 مايو الماضى) أثير حوله اللغط بعد اكتشاف وقائع تعذيب لمرضى محجوزين داخل مقره بالمقطم. وفى نفس السياق أيضا تلقى قياديان من حزب الوفد تمويلا أو ثمنا لتوزيع كتاب صادر عن المعهد الديمقراطى الأمريكى المحظور نشاطه فى مصر على شباب حزب الوفد وبعد اكتشاف الواقعة تم فصل القياديين من الحزب. وبالمناسبة فقد صرح لى أحد الأصدقاء المنتمي لحزب الوفد أن هناك تمويلات أخرى يتم توجيهها وتوظيفها فى الانتخابات البرلمانية القادمة.. بمعنى أنها مال سياسى يتم توظيفه للتأثير فى تشكيل أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات الدولة، وهل هناك أهم وأخطر من المؤسسة التشريعية والرقابية المتمثلة فى البرلمان؟! (3) وكل ما سبق «كوم» وما هو آت «كوم» آخر، لأن ما هو آت يكشف أن هناك من يريد بفجاجة وفٌجر أن يلوى ذراع الدولة المصرية التى تعيش مرحلة المواجهة.. مواجهة المؤامرة من الداخل والخارج ونذكر أيضا أن الحكم الأخير حقيقة ومن يقول بغير ذلك إما مغفل أو يتغافل. لقد استكثر البعض على الدولة المصرية أن تحاول حماية أمنها القومى مثلها مثل دول العالم التى يريد السادة الناشطون والحقوقيون وأدعياء الحرية أن نحاكيها فى حرياتها.. وهم يعلمون جيدا أن هذه الدولة التى تمنح مواطنيها الحريات لا تتردد لحظة فى حماية أمنها القومى من خلال ضبط أو منع التمويلات الخارجية لأية أنشطة داخلية بشكل أقرب إلى المنع المطلق، أما إذا حاولت مصر أن تضبط فقط هذا الأمر فسوف يخرج المتربصون ليصرخوا: الحقوا أو اضبطوا الدولة متهمة بارتكاب فعل فاضح!! (4) وفى الأسبوع الماضى صدرت عن الحكومة مكاتبة رسمية وتم تعميم نشرها على الوزرات والمحافظات وما فى مستواهما من هيئات وجهات حكومية وطالبت الحكومة ممن أرسلت لهم هذا المنشور بعدم التوقيع على أية اتفاقيات تعاون مع أى سفارة أجنبية أو هيئة تنموية بما فى ذلك الأممالمتحدة والهيئات التابعة لها إلا بعد الرجوع لوزارة الخارجية. هل فى هذا عيب؟!.. الحكومة تريد أن تضبط الأداء فى هذا الاتجاه وتعرف على الأقل بنشاطات الوزارات والمحافظات التابعة لها ، ومن حق الجهات السيادية أيضا أن تعرف وتفحص، ولا تترك الأمر للصدفة أو تسهل الاختراق الذى كان حادثا قبل ثورة يناير، لكن أدعياء الحرية فى جرائدهم ووسائل إعلامهم يهاجمون الحكومة ويرفضون المنشور ولايعجبهم هذا الإجراء.. لماذا ؟! لأنهم يخلطون عن جهل أو عمد بين الحرية والفوضى.. ومصر لن تقع فى الفوضى مرة أخرى لأنها هدامة وليست كما أشيع عنها من قبل.