يشهد شهر مايو من كل عام الاحتفال بيومين من الأيام العالمية وإن ارتبطا فيما بينهما ارتباطاً عضوياً حيث تمثل المتاحف أحد أوعية حفظ التراث المادى المنقول، على اعتبار أن شواهد التراث الثابت وعلى رأسها الآثار بالطبع تعد مواقعها بمثابة المتاحف المفتوحة التى تكتسب أهميتها من حجم المعروض فيها. وتجدر الإشارة إلى أن المتحف بعامة كان يمثل فى بداياته حالة سلوكية تتسق والنزعة الفطرية للاقتناء التى درج عليها الإنسان منذ بواكير حياة الاستقرار وإنتاج الطعام. حقيقة أن المتحف من حيث الوظيفة والنوع قد تعددت أغراضه وأهدافه، ليصبح وعاءً للتفاعلات النوعية للإنسان مع بيئته بشقيها الزمنى والمادى. إلا أنه ظل مع التراث المادى والمعنوى يمثلان الحافظ الأمين للذاكرة الإنسانية بعامة التى نستلهم فيها بتواصل الماضى والحاضر والمستقبل أشكالاً وأنماطاً من الحياة.بما يجعل استنفار قدرتنا على فهم مفردات واقعنا سهلاً ميسوراً، الأمر الذى يعكس أهمية الحفاظ على التراث متحفياً أو غيره. والواقع فإن أنماط التعامل الرسمى فى هذه القضية قد عكس حالة من النمطية المقيتة التى تقلل من شأن الحدث بعدما اقتصر الأمر على ارتداء وزير الآثار لقميص (تى شيرت) موسوم بالاتحاد من أجل التراث وفى حضور مديرة اليونسكو لينتهى الأمر الاستعراضى بكلمات المناسبات المرسلة دونما استعراض لرؤية تجمع بين خطوط الاستراتيجية العامة لحفظ التراث وخطط تنفيذها. إذ يعلم المعنيون بالأمر منا ثمة مخاطر تعترى تراثنا المادى لا سيما الآثار، بما يستلزم العمل على خطين متوازيين أحدهما تحديد المخاطر ومؤثراتها ومستوى الحفظ على المستوى المحلى أو الدولى. والثانى يتعلق بسبل إستثمار ذلك الموروث الثقافى واستنطاقه لمصلحة المجموع بأسلوب متجاوز للتقليدية المقيتة من خلال أساليب العرض وتوزيعها. إذ لا يعقل أن تتكدس فى القاهرة الكبرى ثلاثة متاحف عالمية (المصرى والكبير والحضارة) بينما تخلو أقاليم بأكملها من هذه النعمة التى تتجاوز المفهوم المخزنى إلى البعد التنموى، لو أنصف على استيعابها المنصفون. وهذا الأخير يرتبط بالتعليم حيث ترسيخ قيم الانتماء بعيداً عن كتب التربية القومية ومكوناتها التجريدية الهزيلة، كما يرتبط بالسياحة حيث تشجيع الدولة على إنشاء مراكز جاذبة للنشاط السياحى بكل مفرداته وتداعيات ذلك على أنماط الاستثمار الاقتصادى الذى ما يزال يغض الطرف عن استثمار الثروة التراثية لمصر، مركزاً على الثروات الطبيعية التقليدية وأهميتها من بترول وغاز وتعدين وتحجير وما شابهها. بل لا أغالى إذا قلت إن ورقة العلاقات التراثية لا سيما فى الآثار تحديداً لم تزل بعيدة عن الأوراق الضاغطة فى القرار السياسى الدولى ومواقفنا إزاءه، فى حين أن محاولة استثمارها فى الداخل بعبثية البانورامات !! وحفلات الرحاب الأثرية ذات الطبيعة الصاخبة ليؤكد على أن الفكر ما يزال أسير رؤى بالية لم تعد تنطلى على أحد، وغالباً ما تأتى بعكس ما كان مرجواً منها تلميعاً لوجوه أو تثبيتاً لكراسيها. ??? والواقع فإن الحديث عن الأيام العالمية ينبغى أن يتسم الطرح فيه بما يتفق ومكانة مصر فى هذا المجال على الصعيد الدولى، بحيث يصبح التعامل معها احتفالاً وإحتفاءً ذى طبيعة ممنهجة. بما يعيد طرح موروثاتنا على خريطة المراكز الحضارية بصياغة تتسم بفهم واع لأهمية تراثنا الحضارى، ليعلم العالم المطلوب منه إزاء حمايتها وكذا حيال الترويج لها. فالقضية ليست مجرد يوم لتبادل الأحاديث والتكريمات والزيارات الرسمية بل هو يوم يمثل كشف حساب لما مضى وخطة مستقبلية لما هو آت، بحيث يتم توظيف مفردات التراث بشكل يؤكد على استحقاقنا لامتلاكها ومن ثم إمكانية امتلاكنا لمكان تحت شمس الحاضر والمستقبل قدر تقديرنا لاستحقاقات الماضى. والواقع فإن موضوع التوسع فى بناء المتاحف على قدر ما به من أهمية تتسق وما سقناه سلفاً إلا أن الأمر ينبغى أن يخضع لمعايير تنسيقية حتى لا يمثل الإنشاء حالة من حالات الهدر المادى والمعنوى. وأحسب فى هذا الصدد أن الخروج على نمطية ملكية الدولة للمتاحف بمفاهيم القطاع العام إلى تبنى أساليب جديدة اقتصادياً، ربما يدفع المجتمع إلى تغيير أنماط سلوكه بالكلية عندما يجد أن أوعية الحفاظ على التراث الثقافى باتت ميداناً للتنافس الاقتصادى بالإتاحة مع الجودة ومسرحاً للتطبيق الإنمائى من خلال ما يرتبط بها من مناشط. وهو ما ينسحب على كل مناحى الأنشطة الاستثمارية على تباينها، وذلك ليس بهدف الزج بكل مفرداتنا فى أتون التنافسية المحمومة بل استهدافاً لقيم الوعى بالتنافس الشريف الذى سيجعل من المؤسسات المعنية باستثمار متاحفنا وتحت إشرافنا محلية كانت أم دولية لقادرة على التوسع فى التسويق والتشويق فى آن واحد بعيداً عن الشعارات الوطنية لبعض المستفيدين من الوضع القائم أو الرافضين لفكر التغيير بعامة. ??? بيد أن الموضوعية تقتضى التركيز على أمرين أساسيين أولهما فكر التوسع فى المتاحف النوعية والذى بات يمثل حجر الزاوية فى تجميع مفردات المشهد التراثى بأسلوب علمى يرسخ من مفهوم الديموقراطية بالمفاضلة التراثية إن جاز التعبير، حيث تكوين الرؤية البانورامية يتسع لتعدد المزارات وتنوعها. وثانيهما أن بعض مفردات تراثنا ليست تابعة للآثار ومن ثم فبقدر أهمية وجودها فإن توحيد مرجعيتها الإشرافية لا يقل أهمية، حيث سيكفل طرح رؤية متكاملة تتفق والأهداف المرجوة من التعامل التعليمى والتثقيفى مع التراث بعامة. وختاماً فما تزال تصدع بمفرداتها فى فضاء الفكر أصداء تلك المقولة الرائعة عن أننا لم نرث أوطاننا عن أبائنا بل هى اقتراض من أبنائنا علينا رده بأحسن مما أخذناه، إذ هكذا فيما نرى ترتقى الشعوب وتصنع الحضارات.. وكل يوم عالمى وأنتم للتراث من الحافظين.