مثلت كلمة «الخطاب» إحدى مفردات حياتنا المطروحة على الساحة المجتمعية منذ فترة ليست بالبعيدة حاول فيها البعض أن يتجه بها نحو التخصيص على المستوى العقائدى فيما عرف بالخطاب الدينى.. أو المستوى التوعوى فيما عرف بالخطاب الإعلامى.. أو المستوى الإرشادى فيما عرف بالخطاب المعرفى.. فضلاً عن نظيرهم الثقافى فيما يخص المستوى الفكرى. وقد تبنى كل خطاب منظورًا يتفق وطبيعته النوعية بالشكل الذى أدى إلى حالة تكريسية للانكفاء على الذات مما أوصل المجتمع لما يمكن أن نطلق عليه «حوار الطرشان»، على الرغم من أن أهم سمات «الخطاب» على المستوى الاصطلاحى ووفق أحدث التعريفات هى القدرة على التواصل مع الآخرين وفق محددات مجتمعية بحكم كونه نظاما للتفكير القائم على الأفكار والتوجهات والمناشط والقدرة على الفعل التى تكوّن العالم الخاص بهذا الخطاب كائنا ما كان. وعلى الرغم من النجاحات التى شهدها مجتمعنا فى مصر المحروسة فى طرح أنماط متعددة للخطاب من بينها المشار إليها سلفاً إلا أنها فى المقابل لا تزال تتسم بالتعثر فى تقديم خطاب قومى واع بحكم الفشل فى تكاملها ومن ثم تحقق الهدف المنشود منها. والخطاب القومى الذى يتبناه مضمون هذا المقال إنما ينزع بداية لمعالجة افتقاده وفق محددات عالمنا المعاصر التى جعلت من العالم قرية صغيرة، فى الوقت الذى نتناقض فيه مع أنفسنا بتبنى انعزالية مقيتة بين كل أنواع الخطاب الذى يبدو متسقًا فى مضمونه مع نفسه فى حين يتسم بغاية التناقض فى الاتساق مع بقية أنواع الخطاب. ويكفى للتدليل على ذلك كيفية تناول الخطاب الدينى لقضية من القضايا من خلال رؤية فقهية بحتة سواء كانت خلافية أو بإجماع الجمهور، لنجد الخطاب الإعلامى وقد شن موجة معارضة تستهدف المضمون العلمى للتناول الفقهى دون إعمال الفكر فى المواءمة بين المتطلبات المجتمعية من جانب واحترام الصبغة الدينية التى درج عليها المجتمع. بحيث يتم الزج بمفاهيم الديمقراطية وحرية الفكر وما عداها من (أكليشيهات) بما يجعل المحصلة ليست مجرد نوعًا من البلبلة التى اعتدنا على استعار أوار بعضها ثم تخبو خافتة لتنتهى وكأن شيئًا لم يكن، بل الخطورة غير المدركة إنما تكمن فى خصمها من الرصيد غير المنظور من الخطاب القومى بحكم افتقاد كل الأطراف لأهم مفرداته وهى القدرة على التناغم مع كافة أنواع الخطاب القائمة. وأحسب أن أهم ما ينبغى أن نعيه فى هذا الصدد أن مصر قد عرفت من زمن غير بعيد وقبيل طرح الخطاب القومى كمفهوم ما أمكن تسميته بالمشروع القومى والذى تتوجه إليه كافة مقدرات الدولة أو على الأقل يتم تبنيه إعلاميًا صغر أم كبر، ولعل مشروع مكافحة الحفاء أو إسقاط مشروعية البغاء قبل ثورة 1952 كانا يتسقان ومتطلبات المجتمع على فقره الذى جعل منه مجتمع النصف فى المائة كما هو شائع. فى الوقت الذى مثلت فيه مشروعات طلعت حرب القومية قيمة غير بعيدة من السياق القومى واقعيًا وإن غابت أو غاب عنها التناول الخطابى. يبد أن مشروعاتنا القومية بعد 52 أفرزت حالة من الخطاب القومى الحقيقى الذى كان يزكى من قيمتها وتتضح أصالته دونما شك فى قدرته على استمرارية تبنيها حتى بعدما زالت وطأة الفكر الشمولى وارتفعت بعض الأصوات المعارضة لها كمشروع السد العالى ومديرية التحرير مثالاً لا حصرًا، بحيث أصبح التعدى عليها أو استنساخها يمثل حالة من حالات المواجهة مع الخطاب القومى المستقر وهو ربما ما يفسر الموقف من مشروع توشكى الذى لم يضع البُعد الخاص بالخطاب القومى فى الحسبان مكتفيًا بالانغلاق على الذات طالما أن من يملكون الوصاية يملكون بالتبعية مفاتحه. qqq والواقع فإن قضية الوصاية تمثل دون شك واحدة من أهم آفات الخطاب القومى من منطلق محاولة البعض الإيهام بكونهم يملكون مقدرات الأمور بحيث يصبح التسليم بالأمر الواقع ضرورة قومية قد تغنى من وجهة نظرهم عن الخطاب القومى، وهم لا يدركون بذلك مغبة هذا الأمر وعواقبه الوخيمة التى جعلت معظم أفراد المجتمع فى حالة انسحابية زادت وطأتها قبيل يناير. ليجد الأوصياء أنفسهم و قد فقدوا شرعية الوصاية التى ابتدعوها بعدما فرض المجموع خطابه الخاص ولو إلى حين وليستعيد الخطاب القومى بقبلة الحياة أنفاسه المرجوة حتى وإن بدأت متهدجة بعض الشىء. ويحضرنى فى معرض التعافى للخطاب القومى تناول مثالين أولهما موضوع التوسع بمنطقة القناة والذى بات نموذجاً للردة الإعلامية التى لم تتخلص من مفهوم التأييد المطلق بالصحف القومية أو المعارض بدرجات مختلفة فى الصحف الخاصة، وكذا مسألة تعيين مستشار الأمن القومى الأخيرة التى جاء تناولها بذات النمط وليس على مستوى الحدث. qqq إذ ما أعنيه هنا يتمثل فى إضاعة فرصة الخروج من شرنقة القومى و(اللاقومى!!) مقابل الحكومى والخاص. بحيث تمثل الصياغة الجديدة فى المعالجة أمرين؛ أولهما تحديث مفهوم الخطاب القومى بتمثل الأفكار المرتبطة بالموضوع والقدرات المباشرة وغير المباشرة لتفعيل القرار ثم النتائج المستهدفة فى ضوء الأرضية المعرفية لطبيعة الموضوع والاحتياجات القومية الحقيقية دون تهوين أو تهويل بما يعكس منظومة فكرية متكاملة تحترم عقل المتابع مواطنًا كان أم مهتمًا. أما الأمر الثانى فيتمثل فى ترسيخ مفهوم التغيير الذى لا يزال شعارًا حبيس الوجدان أكثر من وجوده على أرض الواقع، بحيث يصبح تبنى الخطاب القومى فى التناول على كافة الأصعدة بمثابة الإطار الأكبر فى مفهوم التغيير المنشود بعيدًا عن المصالح الضيقة أو ادعاء المعرفة وافتعال الوصاية. وهى المفردات التى أودعها الشعب متحف الوجدان القومى وإن بقيت فى المخازن حتى إشعار أخير ببناء المتحف ذاته..!!