عندما كتب طه حسين رائعته عن مستقبل الثقافة في مصر كدستور يمكن أن تنتظم من خلاله مفردات المجتمع في منظومة متكاملة, ربما لم يكن يدري أنه سيأتي حين من الدهر تصبح فيه الثقافة مفهوما وممارسة ذات صياغات لا يقوي علي تطبيقها سوي شخوص ومجتمعات ذات سمات خاصة. ولقد زاد من جدية الطرح عندي ما عانته الثقافة ولا تزال في بر المحروسة لا سيما مع التعديل الوزاري الأخير الذي بات فيه الأمر وكأنه لا فرق هناك بين إدارة الثقافة وغيرها من وزارات الحكومة السنية. والواقع أن البون في التنازل جد كبير بين مستقبل الثقافة الذي يمثل عنصرا من العناصر المجتمعية شديدة التأثير والتأثر, وبين ثقافة المستقبل التي تمثل وعاء جامعا واستشرافا مستقبليا لما يمكن أن يصاغ عليه المجتمع من أسس. ومن هنا تأتي أهمية ثقافة المستقبل التي لابد أن نؤكد علي أن ما نحن بصدد طرحه يمثل مجرد لبنة تنتظر مثيلاتها أملا في جمعية المشاركة وتكاملية البناء. وبادئ ذي بدء يمكن القول إن أي رؤية مستقبلية إنما تنبني علي الثوابت والمتغيرات المجتمعية, ومن ثم فإن ثقافة المستقبل عليها أن تتمسك بأهداب اللغة العربية السليمة وأن تتوسل ما وسعها من وسائل من أجل تثبيت هذا الهدف. فمما لا شك فيه أن الخطورة الحالية المعوقة لثقافة المستقبل إنما تكمن في( تقية) الإفساد إن جاز التعبير. فإذا كانت العامية قد خسرت معركتها في مرحلة سابقة كممثل أوحد للتعبير وكبديل للغة الضاد, فإن ما نراه اليوم يمثل محاولة طرح عدة طرق لغوية ذات أسلوب كتابي خاص بحيث يصبح مرادفا للتفرق شيعا وأحزابا. وهكذا يحاول البعض صياغة ثقافة المستقبل باستغراب لغوي رغم أن المحاولة للتدويل اللغوي والمعروفة بلغة الإسبرانتو قد لقيت صدودا في المرادفة للعولمة علي قوتها. ومن ثوابت الثقافة المستقبلية الإنتماء المكاني الذي أصبح يلاقي هزة تحتاج لوقفة أمام الانتماء للفضاء الافتراضي اللامحدود والمقابل للوطن بأبعاده المحددة بما من شأنه التأثير علي قيمة الانتماء, وهكذا بعدما كانت محاوراتنا تدور حول الانتماء اليورو أوسطي أو الاقليمي إفريقيا وعربيا فقد بات الأمر أكثر تحديا في ضوء مستحدثات العصر. ومن ثم فإنه من المعقول جدا أن تسود ثقافة الاتصالات عوضا عن التكتلات السياسية أو الاقتصادية ليصبح الأكثر تناغما مع العالم هو من يملك أكبر قدر ممكن من وسائل الاتصال. وطالما أن هذه الأخيرة تتطلب أدوات ومهارات وقدرات خاصة فأحسب أن مفهوم الأمية سيعتريه الكثير من التغير مما يمكن أن يحدث عندنا حالة من( تراكمية الأمية) قد تؤدي بدورها إلي جمود معجز يعزز مستقبلا من( ثقافة اللامنتمي).. وما أدراك ما هي! ولعل ذات التوجه في ثقافة المستقبل يمكن أن ينسحب علي جانبين أصيلين في البنية الوجدانية للانسان المصري وهما الدين والتاريخ. فجميعنا يعرف كيف أن الدين قد ظل صنوا للبناء الحضاري للمصري منذ بواكير تاريخه, بيد أن المزاوجة المقيتة بين الدين بمطلقاته والسياسة بمحدداتها ربما توجد نمطا جديدا من التدين تنساح فيه الحدود مع السياسة بحيث تتواري معه الصورة التقليدية لرجل الدين بذات قدر تنامي الصورة الجديدة للسياسي. ومن ثم تترسخ في الذهن حالة من التناقض المبرر لدي أصحابه تجعل منهم أتقياء عند التعبد وما عدا ذلك عند المواجهة السياسية في فهم خاص بهم لمبدأ( أشداء علي الكفار رحماء بينهم). وخطورة هذا الطرح قد تكمن حال ترسخه في انقطاع الصلة بين صحيح الدين وسبل التدين بما قد يختزل الأمر في الشخوص دون النصوص وفي النقل دون العقل, وهو ما يمثل أبرز تحديات ثقافة المستقبل( بفتح الباء) بل والمستقبل( بكسرها). أما التاريخ فيمثل دون شك عنصر الضبط في إيقاع ثقافة المستقبل بما يمتلكه من مساحة زمنية ومحطات للأحداث تجعل العقل الجمعي علي مسافة متساوية من كل الأطياف شريطة ألا يتم العبث بمقدراته لإعلاء أحداث وطمس أخري أو رفع شخوص وحط أخري. وهو لذلك يمثل تحديا من نوع خاص يرتبط فيه التعليم بالسياسة واقعا والوطنية بالانتماء روحا, وأي مساس بكل ذلك معناه إدانة مؤجلة ورؤي كاشفة للعابثين بمصادره الرئيسية مخطوطة كانت أم أثارا شاخصة. ويبقي الفن في المبتدأ والمنتهي بمفهومه الجامع لكل قدرة إبداعية بشخصيتها المتفردة, وهو في ثقافة المستقبل عليه أن يخرج من إسار الاتهام والصدام المفتعل بمنظومة الأخلاق إلي الوئام المتناغم مع جميع مفردات ثقافة المستقبل حال قبولنا لمضمونه فيها دون موارية أو التباس. وحتي تبلغ ثقافة المستقبل مبتغاها في هذا الصدد فليكن للوجدان ذات المساحة المخصصة للعقل وللهواية نفس قيمة الاحتراف حتي يصبح بإمكاننا تذوق الابداع عقلا بنفس قدر فهمه وجدانا. والواقع فإن الطرح السابق لا يمكن أن تكتمل صورته إلا بتبني ما انتهي إليه العلم من تقدم تقني يمثل دون شك الجناح الآخر لثقافة المستقبل, التي تستحق بإرساء أسسها وتحديد معالمها وفهم نظرياتها وتطبيق قواعدها النظرية والعملية أن تكون مشروعنا القومي الحقيقي الذي يحفظ علينا هويتنا القومية وقدرتنا علي التفاعل مع المعطيات الدولية. والذي هو أيضا الكاشف المنير لأدعياء الثقافة في كل عصر ممن نجحوا علي مدار عقود عدة من طمس الأصالة الحقيقية للمثقف صاحب الرسالة. وهو ما نحتاجه الآن أشد الاحتياج أملا في غد أفضل تصاغ فيه وبه الشخصية الحقيقية للثقافة المصرية المستقبلية بعيدا عن نزق التسلط باسم الثقافة أو جنوح السلطة بإسم وزارتها.( إشراقات السعدي3) في غمرة حديثنا عن الضمير والضمير المنفصل في اللغة نسينا أن نؤكد علي أن الضمير الغائب قد تعدي النحو ليصبح أهم مفردات قاموس حياتنا.