هناك مفكرون كان لهم فضل الريادة فى طرح القضايا والأفكار التى لانزال نحتاج إليها فى صنع التقدم الفكرى والحضارى لأنفسنا وللأجيال القادمة، ولعل من المناسب فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا أن نتذكر هؤلاء الرواد ونتعرف على رؤاهم الفكرية للطريق الذى ينبغى أن نسلكه لنخرج من عباءة التقليد والجمود إلى رحابة الإبداع الحضارى المستقل استنادًا على تراثنا الحى والإمكانات الهائلة الذى يعطينا إياها التقدم العلمى المعاصر الحافل بالعقلانية والمناهج العلمية التى تتيح التقدم لكل من عمل بها وفكر من خلالها. إن تلك كانت دعوى هؤلاء الرواد وذلك ماينبغى أن نتطلع إليه الآن ونعمل من خلاله على تقدم أمتنا لنضعها فى المكانة اللائقة بها بين الأمم فى العالم المعاصر. لقى المفكر الكبير جمال الدين الأفغانى ما يستحق من تكريم حينما فطن العالم الإسلامى إلى ضرورة تكريمه باعتباره قد وهب حياته فداء للمسلمين والإسلام، حيث نقلت رفاته إلى بلده افغانستان عام 1944م ويحتفل بذكراه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. أما بالنسبة لآرائه ومذهبه الفكرى، فقد تشعبت اهتماماته وتعددت القضايا التى شغل بها. فالحقيقة أنه أثار طوال حياته قضايا التحرر والاستقلال ووحدة العالم الإسلامى، وعلى أية حال فإن القضايا التى أثارها الأفغانى ويختلف الباحثون حولها كثيرة ومتشعبة. لكن ما يربط بين هذه القضايا فى اعتقادنا هو تلك الدعوة التى وهب حياته لها وركز حولها جهاده، الدعوة إلى نهضة الشرق. وقد اخترنا أن نتوقف فى مقالاتنا هذه عند رؤيته للشرق وعوامل يقظته على اعتبار أن هذا كان هو الموضوع المحورى لرسالته الإصلاحية. وهو البؤرة التى تتحلق حولها كل القضايا الأخرى التى آثارها وأبدى رأيه فيها. فلقد كثر استخدامه لاصطلاح «الشرق» فى خطابه الاصلاحى سواء المكتوب أو الشفاهى، حيث كتب عن دهرى الشرق، وعن المسألة الشرقية، وعن الحكومات الشرقية، وعن الغرب والشرق وعن مصر والمصريين وحكم الشرق، وعن سياسة انكلترا فى الشرق. كما شار ك فى تأسيس «مرآة الشرق». ولما تمرد على المحفل الماسونى أسس محفلاً وطنياً شرقياً. ولما أسس «العروة الوثقى» هو وتلميذه محمد عبده جعلاها موجهة إلى الشرق وداعية إلى اتحاد الشرق وأوطانه. وكثرت أحاديثه وكتاباته فيها عن الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية وضرورة اتحاد الشرقيين تحت إمرة حاكم عادل. وبدا فى حديثه متفائلاً بصدد مستقبل الشرق رغم أن الظروف التى عايشها جميعاً كانت تشهد بداية حركة الاستعمار الأوروبى للكثير من دول الشرق! فماذا يعنى الشرق عند الأفغانى وفى فكره؟! إن للشرق مفاهيم عديدة منها الشرق القديم وحضاراته، ومنها الشرق العربى، والشرق الإسلامى، والشرق الأوسط، والشرق الآسيوى.. الخ.. فأى شرق يقصد جمال الدين ؟! وبأى معنى يفهمه ؟! وما هى حدود الشرق عنده؟! وفى مواجهة من كان يدعو لاتحاد الشرقيين؟! وضد من يدعو إلى يقظة الشرق وإلهاب وعى أبنائه؟! وما علاقة الشرق عنده بالإسلام والعروبة: هل هى علاقة تقاطع أم علاقة تكامل؟! وما هو المستقبل الذى ينشده للشرق الذى يدعو إلى اتحاده وتقدمه؟! إن هذه الأسئلة وغيرها كثير تتداعى إلى الذهن كلما ذكر جمال الدين الأفغانى وذكر معه مصطلح «الشرق». ولعلنا من خلال الإجابة عنها نكشف عن جوهر جهوده الإصلاحية. ونكتشف بعد مرور أكثر من قرن على وفاته أنه لايزال يعبر عن جانب كبير من الهم «القومى» و«الشرقى» الذى لا يزال جاثماً على عقول المهتمين بالمسألة الشرقية فى مواجهة الهيمنة الغربية والاستعلاء الغربى. يغلب على معظم الباحثين الظن بأن الشرق عند جمال الدين يقصد به فقط الشرق الإسلامى، وأن الشرقيين عنده هم فقط المسلمون. لكن الحقيقة أنه لم يقصر كلمة الشرق على الشرق الإسلامى، ولم يقصر كلمة الشرقيين على المسلمين وحدهم، لأنه كان يدرك أن بلاد الشرق لا يقطنها المسلمون فقط، بل بها أيضاً المسيحيون واليهود وأصحاب الديانات الوثنية. والأفغانى لم يكن فى يوم من الأيام ممن يفرقون بين مواطنى الشرق بسبب العقيدة الدينية التى يدين بها أولئك أو هؤلاء وإنما كان أكثر الفلاسفة توسعاً بمعنى المساواة وميلا للعمل بها فعلاً بين نوع الإنسان، خصوصاً فى الحقوق العامة التى لا يصلح لها معنى إلا بالحرية المعقولة.. كما أنه كان شديد البعد عن التعصب نفوراً منه وان ذكر المسلمين فى أكثر من مقالة فما ذلك إلا لأنهم العنصر الغالب بأكثريته فى الشرق، الملة المسلوبة ممالكها ومقاطعاتها ولهذا أكثر من ايقاظهم. يؤكد ذلك فهم الأفغانى لجوهر الدين، ذلك الفهم الذى لا يفرق فيه بين الأديان– رغم ايمانه العميق بالدين الإسلامى ودعوته الدائبة إلى صحوة المسلمين– فالدين فيما يقول قد «أكسب عقول البشر ثلاث عقائد وأودع نفوسهم ثلاث خصال كل منها ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية وأساس محكم لمدنيتها.. العقيدة الأولى: التصديق بأن الانسان ملك أراضى وهو أشرف المخلوقات، والثانية يقين كل ذى دين بأن أمته أشرف الأمم وكل مخالف له فعل ضلال وباطل. والثالثة جزمه بأن الإنسان، إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوى.. إلى دار فسيحة الساحات خالية من المؤلمات لا تنقضى سعادتها ولا تنتهى مدتها». كما أن الروح الدينية التى تحلى بها الأفغانى نفسه ودعى الجميع إلى التحلى بها «لا ترى فى الأديان الثلاثة ما يخالف نفع المجموع البشرى، بل على العكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أياً كان». والمقصود بالأديان الثلاثة هنا بالطبع هى الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد أرجع الأفغانى الاختلافات فى الأديان إلى ما يصنعه «بعض رؤساء أولئك الأديان الذين يتجرون بالدن ويشترون بآياته ثمناً قليلاً ساء ما يفعلون». «إن الأديان فى مجموعها– فى رأيه– هى الكل وأجزاؤها هى الموسوية والعيسوية والإسلام.. فمن كان من هذه الأديان كلها الحق فهو الذى يتم له «الظهور والغلبة» لأن الظهور الموعود به إنما هو دين «الحق» وليس دين اليهود ولا النصارى ولا الإسلام إذا بقوا أسماء مجردة، ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك «الدين الخالص». قال تعالى : (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين). ويبدو من ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أن الأفغانى كان ممن يؤمنون بالتقريب بين الأديان السماوية وردها جميعاً إلى «الدين الخالص» بنص القرآن الكريم. وهناك نصوص كثيرة للأفغانى تشير إلى احترامه كل صاحب دين أياً كان طالما أن دينه يدعوه إلى احترام الآخرين وإلى سلوك الطريق القويم والعيش فى سلام مع الآخرين.