بالرغم من أن الرئيس السيسى قرر قطع مشاركته فى أعمال القمة الإفريقية الرابعة والعشرين بعد مشاركته فى أعمال الجلسة الافتتاحية، بسبب العمل الإرهابى الغادر فى العريش، فستظل هذه المشاركة تشكل علامة مهمة فى سياسة مصر نحو أفريقيا، التى تقوم الآن على بناء الشراكات التنموية والانفتاح على القارة بقلب مفتوح وعقل ناضج يبحث عن الفرص لتنميتها ويجتهد قدر الإمكان فى ترسيخ دور مصرى فاعل ومُرحب به من كل الأطراف. كانت الساعة العاشرة والنصف مساء اليوم الأول، الخميس 29 يناير، الذى وصل فيه الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، كان الجميع من أعضاء الوفد الاعلامى المصرى منشغلين بالحصول على مزيد من المعلومات والتفاصيل للقاءات الرئيس مع عدد من الرؤساء الأفارقة الذين التقى بهم من الساعة الخامسة عصرا حتى الساعة العاشرة مساء، وهم رؤساء زامبيا وجيبوتى وزيمبابوى ورواندا والسودان ورئيس وزراء اثيوبيا. حتى جاء أحد الزملاء يحمل إلينا خبر الاعتداء الارهابى على مواقع مهمة فى العريش وقع خلالها عدد من الاصابات والشهداء.وهنا تجسدت لدينا مفارقة هائلة بين من يعمل ليل نهار من أجل ترتيب المصالح المصرية العليا مع العديد من دول العالم، ويجتهد فى إرساء أسس تعاون قوية وصلبة مع الاشقاء الافارقة، ويسعى إلى حل المشكلات والمعوقات للنهوض بالعلاقات المصرية الافريقية إلى مصاف أعلى وفوائد أكثر للجميع، وبين هؤلاء الذين أعمى الإرهاب قلوبهم وبصائرهم ولم يعد لديهم فى هذه الحياة سوى القتل والتخريب ونشر الفوضى متصورين أن مصر سوف تقع فى أيديهم كثمرة سهلة المنال. ساد لدينا جميعا نوع من الوجوم والحزن.. كنا قبل أن نستمع إلى هذا الخبر المحزن سعداء وفرحين بالنتائج الايجابية التى بدأت تتسرب عن لقاءات الرئيس السيسى مع الرئيس عمر البشير والرئيس الزامبى ورئيس رواندا ورئيس زيمبابوى ورئيس وزراء أثيوبيا، وفى اليوم الثانى وبعد انتهاء أعمال الجلسة الافتتاحية لقمة الاتحاد الافريقى، وقبيل مغادرته أديس ابابا عائدا الى القاهرة التقى عددا آخر من الزعماء الأفارقة وهم رؤساء أوغندا ورئيس جيبوتى والرئيس روبرتمجانى رئيس زيمبابوى والرئيس الجديد للاتحاد الأفريقى والرئيس التونسى الباجى قائد السبسى وسلفا كير رئيس جنوب السودان وملك اسبانيا ضيف شرف القمة، وفى كل هذه اللقاءات تركزت الحوارات على تحقيق المزيد من التعاون الشامل بين مصر وهذه البلدان، ومواصلة الحوار حول النقاط العالقة بين مصر وأثيوبيا والسودان بشأن الجوانب الفنية لسد النهضة، ومناقشة قضايا حيوية وخطيرة كالوضع فى ليبيا، وما يمكن أن تقدمه مصر من مساعدات تنموية واقتصادية للدول الافريقية الشقيقة، والجهود التى تسعى إليها مصر لزيادة القدرة التفاوضية للدول الإفريقية فى الاجتماعات الدولية الخاصة بتغير المناخ، والمبادرات المصرية فى مجال مكافحة الإرهاب والسيطرة على خطر مرض الايبولا البشع، وأمور أخرى تدل على رؤية مصرية تسبق الزمن من أجل بناء أسس من الثقة والتعاون وتبادل المنافع مع كل إفريقيا. وبينما يفكر كل منا من أعضاء الوفد الاعلامى المصرى فى هذه المفارقة بين البناء والهدم، وبين الفرح والحزن، دخلنا فى تبادل للرأى حول الخطوة التالية لتداعيات الحادث الارهابى البشع فى العريش، كانت الاتصالات تتدفق بين كل منا وبين مصادره فى القاهرة ليعرف بعض أبعاد ما جرى والبعض الآخر كان يراقب حركة أعضاء الوفد المصرى المرافق للرئيس، وفى هذه اللحظة خرجت السيدة فايزة أبو النجا مستشار الرئيس لشئون الأمن القومى قائلة لنا إنه مهما كان المصاب فى العريش فمصر لن تتوقف عن مواجهة الإرهاب، وأننا ندرك تمامًا أن هذه الأعمال تحاول أن تؤثر على استعدادات مصر الخاصة بالقمة الاقتصادية المرتقبة فى مارس المقبل، ولكننا سوف نستمر فى جهودنا ولن يؤثر علينا أى شىء من هذا، وبعد دقائق لمحنا السفير علاء يوسف المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية والتف الجميع حوله سائلين عما يجرى، وأوضح لنا أن الرئيس قام بالاتصال بالسيد وزير الدفاع والسيد رئيس الأركان وناقش معهم أبعاد هذه العملية الإرهابية الغادرة ووجه باتخاذ كل الإجراءات الممكنة لضبط الجناة. فى هذه اللحظات لم تكن هناك إجابة واضحة على تساؤل ثار بيننا بشأن الخطوة التى سوف يتخذها الرئيس، وهل سيكمل المشاركة فى أعمال القمة، أم سيعود إلى القاهرة لمتابعة الوضع الأمنى فى سيناء عن كثب، البعض منا فضل أن يكمل الرئيس مشاركته باعتبار أن هذه المشاركة تنطوى على فوائد عظيمة لمصر وتبعث برسالة إلى العالم كله بمن فيهم هؤلاء الإرهابيين بأن مثل هذه الاعمال الدنيئة لن تقهر إرادة مصر والمصريين فى مواجهة الارهاب بكل صوره ولن تثبط الهمم فى البناء والعمل مهما كانت التضحيات والتحديات، والبعض الآخر توقع أن يقطع الرئيس مشاركته فى أعمال القمة نظرا لخطورة ما جرى، وأن يتابع الوضع عن قرب أولا بأول، وفى صباح الجمعة بدأت أعمال القمة الإفريقية بجلسة افتتاحية وفقا للجدول المعلن، شارك فيها الرئيس السيسى، وبعد انتهاء أعمالها أعلن إلينا السفير علاء يوسف أن الرئيس قرر العودة إلى القاهرة لمتابعة الموقف، وعرفنا أيضا أن وزير الخارجية سامح شكرى سوف يرأس وفد مصر حتى نهاية أعمال القمة. Qqq ذلك فقد شكلت مشاركة الرئيس السيسى فى الجلسة الافتتاحية وما سبقها من لقاءات مع عدد من القادة الافارقة نقطة مهمة وفاصلة فى سياسة مصر تجاه افريقيا ككل، وتجاه أثيوبيا خاصة، وكان التليفزيون الاثيوبى قد أذاع تقريرا عن لقاء الرئيس السياسى ورئيس الوزراء الاثيوبى هايلا ماريام ديسالين بحضور وفدى البلدين وصفه بالايجابى وأنه عزز التقييمات الاثيوبية بأنهم يتعاملون مع قائد موثوق فى قدراته وفى تعهداته، وانه نقل العلاقات بين البلدين إلى مرحلة مهمة من الاستقرار بعد أن شابها فى الماضى قدر كبير من الاهتزاز والتوتر. هذا اللقاء المهم أكد أن البلدين يسيران فى الاتجاه الصحيح ويعملان على تقوية علاقاتهما معا وفيه شدد الرئيس السيسى على أهمية اتخاذ إجراءات ملموسة تحول التوافقات السياسية بين القيادتين إلى مرجعية قانونية تحفظ حقوق البلدين وتؤمن مصالحهما وتعزز التعاون المشترك بينهما، وفى اللقاء أيضا اكد الرئيس على ان مصر لا تقف امام حق الشعب الاثيوبى فى التنمية من خلال بناء مشروعات على نهر النيل، إلا أن هذه المشروعات يجب أن تأخذ فى اعتبارها حقوق مصر المائية حسب تصريحات السفير علاء يوسف، ومن هنا تم الاتفاق على اقتراح مصر بأن يتم تشكيل مجموعة عمل للتوصل إلى اتفاق حول المبادئ التى تلبى الشواغل المصرية إزاء سد النهضة. Qqq يتجول فى شوارع أديس أبابا ويلمح وجوه الاثيوبيين يدرك جيدا أننا أمام شعب طيب دمث الخلق يعتز بنفسه ويسعى لمزيد من التنمية، وأن بلاده بحاجة إلى مشروعات كثيرة فى البنية الأساسية وفى تنمية الموارد البشرية، وأديس أبابا ورغم ما يجرى فيها الآن من مشروعات للبناء وطرق وصرف صحى، فما زالت بحاجة للكثير جدا من الاستثمارات، فهى أرض واعدة بكل المقاييس، وقد التقيت بأحد رجال الأعمال السعوديين فى بهو الفندق صباحًا، وعرفت منه أنه يعمل على مشروع استثمارى طبى كبير فى أديس أبابا وأنه أخذ كل الموافقات الحكومية تقريبا، وسيبدأ التنفيذ فورا، وكانت نصيحته لكل رجال الأعمال العرب عامة والمصريين خاصة أن يوجهوا أبصارهم إلى اثيوبيا، فهو بلد جميل ملىء بالموارد الطبيعية وبحاجة إلى استثمارات، والشعب الاثيوبى ودود ودائم الابتسام ويرحب بمن يثق فيه ويفتح له الأبواب، وقلت له أن لدى مصر نموذجًا رائعًا وهو شركة المقاولون العرب التى تقوم الآن بتنفيذ مشروع تنموى مهم، وبصدد الاشتراك فى مشروعات أخرى بالاتفاق مع الحكومة الاثيوبية، فقال الأمر يحتاج إلى أكثر من شركة مصرية وأكثر من مشروع أو اثنين مهما كانا كبيرين. والحق ان إحدى الشركات المصرية الخاصة كانت بدأت الاستثمار فى اثيوبيا منذ أقل من عشرة أعوام، وتحقق نجاحًا كبيرًا، والاثيوبيون يرون فيها نموذجا ناجحا للغاية، والدعوة مفتوحة لكل المستثمرين المصريين، فبناء الشراكات الكبرى الآن بين الشعوب لا تقتصر على الأعمال والإتفاقات الحكومية مهما كانت مثمرة وفعالة، ولكنها تمتد أيضًا إلى القطاع الخاص الأكثر أموالا والأكثر خبرة والاكثر قدرة على المخاطرة المحسوبة وبما يفيد بلده ونفسه معًا، وإذا كانت هناك بعض الصعوبات فى المراحل الأولى، فإن العوائد المنتظرة تفوق أى عوائق أو صعوبات يمكن التغلب عليها بالحوار والمثابرة. المشاركة فى القمة الافريقية تعكس حجم التحديات التى تواجه كل المجتمعات تقريبا، وبعضها يتعلق بالقدرة على الحياة نفسها، وقبل أن تهبط بنا الطائرة الاثيوبية بحوالى 20 دقيقية قامت إحدى المضيفات بتوزيع ورقة مليئة بالاسئلة المعتادة للجوازات ولكنى لاحظت أن ثلث الاسئلة ذو طابع طبى يتعلق بالحالة الصحية للمسافر إلى أديس أبابا وهل يعانى ارتفاع فى درجة الحرارة أم لا، وهل قام بزيارة إلى إحدى دول غرب افريقيا فى غضون الشهر الماضى، وحين دخلنا قاعة المطار كان لابد أن نمر على بوابة لفحص درجة الحرارة، من خلال جهاز صغير يبين المطلوب فى أقل من 10 ثوان، وبعدها أكملنا باقى الاجراءات المعتادة للدخول الرسمى.. كان الأمر يسيرا وسريعا معا ومُحملا باتسامة رقيقة من كل العاملين فى مطار اديس أبابا، الذى يمثل بوابة اثيوبيا مع العالم وخاصة من الجوار الافريقى، حيث تُعد اثيوبيا نقطة التقاء مهمة للمسافرين من دول كغينيا وجيبوتى وارتيريا والصومال وجنوب السودان وغيرها من الدول المحيطة. فى هذه اللحظات تبين لنا الحذر الشديد من أن يمر عابر سبيل محمل بفيروس الايبولا الخطير الذى فتك بأكثر من 15 ألف إنسان فى بلدان غرب افريقيا، وبدا الحرص ظاهرا أكثر فى أروقة المجمع الفخم للاتحاد الافريقى، حيث تناثرت الملصقات الكبيرة التى تُذكر الجميع بأن الإيبولا مرض خطير وأنه أمر واقع وأنه يفتك بالانسان الافريقى وأن مواجهته لن تكون ذات فائدة إلا إذا تضافرت جهود الأفارقة والعالم معا، وبصورة منظمة ومُحكمة، ورغم أن الموضوع الرئيسى للقمة الإفريقية الرابعة والعشرين هى تمكين المرأة كجزء رئيسى فى أى خطط للتنمية الشاملة التى وضعت لها اجندة فى قمة سابقة حتى العام 2063، فإن موضوع مواجهة مرض الإيبولا فرض نفسه وكانت مصر قد أرسلت مساعدات طبية لعدد من دول غرب إفريقيا للمساعدة فى مواجهة هذا المرض الخطير، كما أعلنت فى القمة عن حزمة مساعدات أخرى تعبيرا عن الاهتمام المصرى بكل ما يهم الأشقاء فى إفريقيا، وتأكيدا على أن استعادة الدور والمكانة المصرية فى القارة السمراء وفى ظل العالم الراهن فإنه يتطلب تقديم العون والمساعدة والاسهام الايجابى فى كل ما يهم المجتمعات الإفريقية. لقد مر الزمن الذى ارتبطت فيه الريادة المصرية بحركات التحرر من الاستعمار، وصار على مصر أن تنظر للأمور من خلال ما يفيد الشعوب الافريقية لنهضتها وتقدمها.