لا يكاد يختلف اثنان على أن الثقافة فى المجتمعات الغربية المتقدمة تختلف فى معطياتها وآليات تداول مفرداتها عن المجتمعات النامية أو الشمولية والتى لا تزال يطلق عليها تأدبًا دول العالم الثالث، إذ تستند فى كل الأحوال على الخلفية الأيديولوجية أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل منها على حدة. وفى بر المحروسة مثلت شعبية الثقافة أحد الأهداف الرئيسية على المستوى الرسمى منذ ما قبل ثورة 1952 حيث كانت الجامعة الشعبية التى ظلت لعشرين عاماً بذات المسمى لتتغير عام 1965 لتصبح الثقافة الجماهيرية لقرابة ربع قرن عندما أصبحت هيئة ثقافية خاصة بمسمى قصور الثقافة السارى الآن، حيث طرحت على استحياء من فترة قريبة فكرة العودة لمسمى الثقافة الجماهيرية الأمر الذى لم يجد صدى كافيًا فى الأوساط المعنية لأسباب عدة أبسطها استدعاء مرحلة الفكر الشمولى واشتراكية الفقر التى وصم بها عصر ما قبل الانفتاح. يبد أن المهتم بمفردات المشهد عن كثب لا يعنيه فى قليل أو كثير شكلية المسميات على دلالتها الضمنية قدر اهتمامه بما ينبغى أن تكون عليه مفردات الثقافة فى ظل المتغيرات المتسارعة على الساحة والتى لا تتفق إيقاعات الأداء التقليدى لها فى معظم مؤسساتنا الثقافية الرسمية مع حجم الطموحات المنشودة فى هذا الشأن. والواقع فإن غض الطرف عن أهداف مثل هذه المؤسسات بحكم أنها أنشئت لأهداف محددة قد يتيح لنا مساحة للتناول أكثر مرونة ورحابة لا سيما إذا خرجنا من نطاق المحددات المباشرة التى انتهت بتلك القصور فى عدة جوانب إلى ما يشبه مؤسسات التأهيل المهنى عند تناولها للأنشطة الاحترافية، ويكفى تدليلاً منا على ذلك أن ثمة فارقًا أن تؤهل شخصًا فى إتقان المهارات الفنية ذات البعد التراثى كالأشغال الفنية البدوية أو النوبية مثلاً وبين أن تؤهله لاستيعاب المفردات الثقافية لمنطقة من المناطق من خلال المفردات المميزة لشخصيتها الثقافية. ولعل هذا الخلط الذى يزداد حجمه يومًا بعد يوم هو ذاته الذى جعل تلك القصور تنفض عن نفسها هذا التوجه لتقع فى مغبة تكرار الأنشطة المقدمة من المؤسسات الرسمية للثقافة كهيئة الكتاب أو البيوت الفنية على تعددها، لينتهى الأمر بقصور الثقافة إلى تكريس القصور فى الثقافة. وحتى نقترب من المشهد فيمكن القول بأن معظم مؤسساتنا الثقافية لم تكن على مستوى الحدث من قبل 25 يناير بزمن ليس بالقليل ورغم أنها كانت معنية برفع المستوى الثقافى لجموع الشعب بعيدًا عن العاصمة إلا أنها اكتفت بالوجود العاصمى ومهرجانات الصفوة، دون التعامل مع عمق البلاد الذى يمثل مساحة طيبة للعمل كان استهدافها فكريًا بتكوين ثقافة مغايرة لطبيعة الشخصية المصرية سببًا غير منكور لما عانيناه ولا نزال بين جموع الشباب. على الرغم من أن آليات الرصد الثقافى على أسس علمية كانت من اليسير تناولها فى العمق المصرى بحكم محدودية الوحدات ووضوح المساحات. ومن ثم لم يكن مستغربًا أن أصبحت قصور الثقافة تسير فى ذات الركب بالتناول التقليدى للأنشطة والاستمساك بتكريس الجهد بالانكفاء الداخلى على الذات فى مبانيها المختلفة دون محاولة النزول لمراكز التجمع النوعى سنيًا وفئويًا وكأنى بلسان حالها يردد تلك المقولة التكاسلية الاستعلائية (اللى عاوزنى يجينى، أنا مابروحش لحد)!!. وعلينا فى هذا الصدد أن نسأل أنفسنا على صعيدين رئيسيين أولهما عن موضع ثقافة المجموع جماهيرية كانت أم بالقصور على الخريطة الثقافية للدولة، حال وجودها أصلاً. والثانى يرتبط بتلك المؤسسات الشعبوية أساسًا وحجم المخرجات مقابل ما تنفقه ممثلة فى ظهور مواهب بعينها أو مؤلفات تستلفت النظر أو مواكبات عصرية للتقنية الحديثة ودورها فى تغيير المفاهيم التقليدية، وفوق هذا كله كيفية المواءمة بين عناصر التراث ومستحدثات العصر حرصًا على الهوية القومية.. وغيرها كثير من محددات القيم ومفاهيم المواطنة واحترام الآخر بجانب استهداف آفات المجتمع المزمنة الموجهة ضد فئات بعينها أو حسابات بذاتها وعلى رأسها الثأر وتجاوز القانون والتعدى على المرأة التى وصلت فى بعض المجتمعات إلى حد تغييب حقها الشرعى لحساب التقاليد الموروثة، فضلاً عن ضرورة تضييق الفجوة الثقافية بين الريف والحضر تلك الفجوة التى جعلتنا وكأننا نعيش فى عالمين منفصلين يدرك مغبته أولئك الذين تعرضوا للصدمة الحضارية عندما عايشوا الأمر واقعيًا بعدما كان مقتصرا على المشاهدة إعلاميًا. أما عن المنتج الثقافى على تنوعه وغزارته فأكاد أجزم أن القوافل الثقافية المزعومة والتى لا تقل أهمية عن القوافل الطبية ليس لها وجود إلا على بساط الاستعراض الإعلامى للمسئولين، رغم أن احتكاك خبرائها بالفئة الأكثر تأثيرًا فى العمق المجتمعى وأعنى بهم رجال الدين يمثل هدفًا استراتيجيًا لإنجاح كل مخططات التنمية من خلال مواجهة فكر الانغلاق الذى يعيشه معظمهم فضلاً عن تقديم البرهان العملى للأتباع على وجود روافد عدة لاستقاء الثقافة والتى هى من فروض العين المجتمعية وليست رجسًا من عمل الشيطان ينبغى اجتنابه. إن التحدى الثقافى سيظل يمثل واحداً من أولويات المرحلة بما قد يجعلنا نقول إنها من التوجهات السيادية لوزارة ليست من بين نظيراتها السيادية، ليس من أجل قولبة المجموع وفق توجه واحد لكونه أمرًا مستحيل المنال ولكن من أجل تشكيل عقلية متعددة المشارب والمنافذ وشخصية تجمع بين ثوابت مصريتنا ومتغيرات عالمنا المعاصر الإيجابية. شريطة أن يتم إعادة صياغة وهيكلة مؤسساتنا الثقافية التى صار بعضها مجافياً للثقافة الحقيقية بل عبئًا عليها فى حين يعمل بعضها الآخر بقوة الدفع الذاتى وفق خطط مزعومة أو مكررة تبعث على ملل القائمين عليها فما بالنا بمستقبليها. وهو الأمر الذى سنحاول استجلاء ملامحه التفصيلية مستقبلاً عسانا أن نعايش بحق ثقافة القصور الجابرة للكسور والمقيمة للجسور فى بنيتنا الفكرية داخليًا وخارجيًا، أملاً فى مستقبل لا يجد الفرد فيه نفسه فى حالة مفاضلة بين لهاث الخبز وتنسم الحرية.