لا جيش.. ولا اقتصاد.. ولا استقلال.. وإذا خرج المستعمر افتقدت الدولة الجزء الكبير من مواردها.. وكيف لهذه الأمة متعددة الأجناس.. وهى على الخريطة تبدو مثل حبة الرمل الباهتة أن تتقدم. وللوهلة الأولى ستجد أن انطباعك عنها أنها مجرد جزيرة فارغة إلا من الأدغال والصخور ومع ذلك فإن مساحتها التى لا تزيد على 699 كيلومترًا مربعًا قابلة للزيادة لأنهم يحولون البحر إلى أرض.. تحيط بها ماليزيا من ناحية الشمال وأندونيسيا من الجنوب.. وفى سنغافورة لا تسأل عن الخريف والشتاء والربيع.. فالمناخ موسمى وحار ورطب ودرجة الحرارة طوال السنة معدلها 26 درجة لكنها تزيد على ذلك قليلا فى مايو ويونيو.. والأمطار تقول كلمتها فى معظم أوقات السنة. وكل ما نعرفه هنا فى مصر عن سنغافورة أنها من النمور الآسيوية، لكنها فى الحقيقة أبعد من ذلك بكثير.. فهى قصة نجاح يجب أن تروى ونحكيها لأنفسنا ولغيرنا، خاصة فى هذه المرحلة التى نتطلع فيها إلى بناء دولة حديثة.. مع الفارق والاختلاف فى أمور عديدة بين مصر وسنغافورة التى كانت دولة مجهولة فقيرة ضعيفة خاوية فإذا بها تصعد إلى القمة وتكسر حواجز المستحيل كلها. والسؤال: هل يمكن تلخيص تجربة نجاح سنغافورة فى صورة لها عنوان؟.. والإجابة ممكن وأن يكون العنوان كلمة واحدة هى «المعرفة».. فهى كلمة السر فى القوة.. وأساسها العلم والابتكار والبحث والتجديد.. وقبل كل هذا الرغبة فى الانطلاق.. وهنا يقول «لى كوان يو» فى مذكراته الضخمة التى نشرها بعنوان «من العالم الثالث إلى العالم الأول»: (درست الوضع وقتها بشكل واقعى وعرفت أن طموحنا لكى نكون دولة قوية لا يكفى ولن يحقق الغرض.. ولا بد أن يكون هدفنا «دولة استثنائية» فى كل شىء».. ومن هنا كانت ضربة البداية وشعارهم (الطريق إلى المستقبل يبدأ من الآن).. وما يمكن أن نفعله غدًا يمكن أن نقوم به اليوم.. ولا بد من استعداد لكل شىء بدراسة كل شىء وحساب الأخطاء والخسائر والأرباح.. والقدرة على إدارة الأزمات فى بلاد لا تحيط بها داخليا وخارجيا الأزمات فقط لكن الكوارث الطبيعية أيضًا وما أقساها فى هذه المناطق من العالم. ودائمًا فى كل نهضة يوجد ملهم أو قائد يجمع الكل حوله.. ثم يتجه بهم صوب مشروع نهضة الدولة ومهندس الأمجاد هو «لى كوان لى» وسنغافورة هى خليط من الصينى والملايوى (الماليزى) والهند وجنسيات أخرى وعندما يتوحد الهدف وتخلص النوايا ويكون القانون هو سيد الموقف على الكبير قبل الصغير تنطلق مسيرة الأوطان. وفى سنغافورة يؤمنون بأن المعرفة هى الدعامة القوية التى يقوم عليها الاقتصاد قبل الثروات الطبيعية والمالية والتجارة والاستثمار.. وهى نقيض «الفهلوة» وهى عدونا الأول فى مصر، حيث الإفتاء بلا علم فى كل شىء.. ولهذا بلغت سنغافورة درجة رفيعة من التعامل مع التكنولوجيا الحديثة والالكترونية فى كافة الميادين.. لأن المعرفة هى المفتاح السحرى لكافة الأبواب المغلقة وتشير إحصائيات المعهد الدولى بأن كل 1000 فرد فى سنغافورة من بينهم 573 يملكون الكمبيوتر ونفس العدد تقريبا يستعمل الإنترنت. وهنا أعود إلى «لى كوان يو» الأب المؤسس لسنغافورة الحديثة والرجل الذى ارتقى بها من الظلمات إلى النور.. ومن الدرك الأسفل للضعف والتفرق والفقر.. إلى أعالى التقدم والنمو والثراء. وفى كتابه يقول: هناك كتب تعلمك كيف تشيد منزلا.. وتصلح محركا، ولكننى لم أر كتابا حول كيفية بناء دولة.. وكان وقتها فى الثانية والأربعين من عمره عندما تولى رئاسة وزراء البلاد بعد استقلالها عام 65 وقبلها شغل نفس المنصب وقت فترة الحكم الذاتى التى سبقت الاستقلال أى منذ عام 59 وقت أن كانت سنغافورة تابعة للاتحاد الماليزى. معنى هذا أن كل بلد له خصائصه وقدراته وظروفه.. وبراعتك أن تكتشف ذاتك وتحدد موقعك وترسم أهدافك.. وفقا لما تملك من إمكانات وما تستطيع اكتشافه من جديد.. كانت حلبة «لى كوان يو» ضيقة المساحة محدودة العدد (لم يتجاوز 2 مليون نسمة وقتها) لكن انظر كيف نجح هذا الرجل أن يسبح وهو يحمل بلاده الصغيرة على ظهره فى بحر عاصف تتلاطم الأمواج بالصراع بين أمريكاوالصين وتايوان.. لا هو قادر على عداء أمريكا ولا التخلى عن الصين.. حتى أصبح الرجل وسنغافورة وجهين لعملة واحدة اسمها مهارة القيادة.. وأساسها المعرفة بالطرق والأساليب التى يمكن السير على هداها.. ولا بأس من التجربة والاستفادة من الأخطاء.. لكن بسرعة والنظر دائمًا إلى الأمام بثقة. «لى كوان يو» من الجيل الثالث من مهاجرى الصين إلى سنغافورة ولد فى 16 سبتمبر عام 1922 درس الحقوق فى جامعة كامبردج بانجلترا وأسس حزب العمل الشعبى إنه الرجل الذى ركب عربة تجرها الثيران على عجلات خشبية وهو فى السادسة من عمره فى الطريق المؤدى إلى مزرعة المطاط الذى يمتلكها جده.. وفى عام 77 كان يركب الطائرة الأسرع من الصوت متجها إلى نيويورك. إنه الرجل الذى ردد مجبرا السلام الوطنى لثلاث دول هى بريطانيا واليابان وماليزيا.. ثم سنغافورة بكامل إرادته وفى مذكراته يقول: لو كنت أعرف حجم المخاطر والصعاب التى ستواجهنى ما فكرت أنا وزملائى فى تأسيس حزب العمل.. ويعترف: تعلمنا الدروس والعبر من المتغيرات المتلاحقة السريعة حتى أدركنا مواطن القوة والضعف عندنا وعند من نتعامل معهم، وعندما تولى أمر السلطة لم يكن يعرف أساليب الحكم، لكنه كان يمتلك الرغبة الصادقة فى تحقيق العدالة والمساواة.. وتعلم تجاهل انتقادات ونصائح الخبراء وأشباه الخبراء لأنه كان دائمًا وأبدًا يعمل من الميدان وعلى أرض الواقع وكان يردد المثل الصينى الذى يقول:(طائر السنونو صغير لكنه يمتلك الحواس الخمس كلها).. لذلك توجب علينا أن نكون أكثر تنظيما وأكثر كفاءة وقدرة على المنافسة من بقية دول المنطقة. ويلخص «لى كوان يو» الأمر كله فيقول: المستقبل دائمًا حافل بالوعود المأمولة مثلما هو محفوف بالمخاطر المجهولة وعدم اليقين! وهناك خط فاصل بين عالم متقدم وآخر متخلف والفرق بين هؤلاء فى عالمهم الأول وعالمنا الثالث امتلاك المعرفة.. فى مقابل الجهل والعناء والرواية المحدودة والحلول النمطية.. والقيم الأساسية التى تحقق النجاح والتقدم لأى مجتمع مهما تعددت جنسياته ودياناته مثل سنغافورة.. هى التماسك الاجتماعى، فالكل سواء فى الثواب والعقاب والفرص متاحة أمام الجميع حسب قدرات الفرد، حيث يكون الرجل المناسب فى الموقع المناسب لا محسوبية ولا كوسة ولا عشان خاطرى. والروشتة السنغافورية فيها الكثير من التفاصيل التى تستحق أن نقف أمامها.. لكنها ممنوعة على السماسرة والمنافقين والآكلين على كل الموائد والفهلوية.. وكل واحد عارف نفسه!