من روائع الفكر السياسى للإمام السلفى ابن قيم الجوزية (691 - 751ه 1292 - 1350م) ما أورده فى كتابيه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) و(الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية) عند الحديث عن «اختلاف العلماء فى العمل بالسياسة».. فهو يورد تلك المناظرة التى دارت بين أبى الوفاء ابن عقيل البغدادى (431- 513ه 1040 - 1119م) وبين بعض فقهاء الشافعية حول «السياسة» وعلاقتها «بالشرع».. تلك المناظرة التى بدأها ابن عقيل، ودارت على هذا النحو: * إن العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام * لا سياسة إلا ما وافق الشرع السياسة: ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحى، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع» أى لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردت: ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل (التمثيل) ما لا تجحده عالم بالسَّير».. وبعد أن يود ابن القيم نص هذا الحوار الذى قرر فيه ابن عقيل - وهو من أعلام السلفية- أن «السياسة» التى تستجيب «للمصلحة» لا تخالف «الشرع»، حتى وإن لم ينزل بها وحى ولم يعرفها عصر النبوة، بل إنها تسمى «شرعا» يعقب ابن القيم مزكياً رأى ابن عقيل.. وهو فى تعقيبه هذا يتحدث عن جمود الذين قصروا مضمون «الشرع» على ما نزل به الوحى، وكيف دفع هذا الجمود الولاة والحكام إلى «سياسة» تخالف «الشرع» يعالجوا بها محدثات الأمور، عندما رفض الفقهاء استحداث الأحكام الضرورية والمتفقة مع مصلحة الأمة فى ذات الوقت.. ثم يستطرد فيذكر أن الشريعة «مقاصد وغايات»، وليست «طرقا وقوالب وشكليات» ذلك «أن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذى قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العدل وأسفر صبحه بأى طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته فى نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التى هى أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط ، فأى طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا نزاد وإنما المراد غاياتها -التى هى المقاصد- ولكنه نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وهى مشرعة وسبيل للدلالة عليها. إننا لا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هى جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها «سياسة» أمر اصطلاحى وإلا فإذا كانت عدلا فهى من الشرع إن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهى من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وتقسيم بعضهم الحكم إلى: شريعة وسياسة، كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة، وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى: عقل، ونقل وكل ذلك باطل.. بل السياسة، والحقيقة، والطريقة، والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد فالصحيح قسم من أقسام الشريعة، لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها ومن له ذوق فىالشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد فى المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذى يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، يتبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها، واحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.. إنها عدل كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها.. هكذا «قنن» اعلام السلفية تطور الفكر السياسى والقانونى، فربطوا بين العادل منه وبين «الشريعة» واضعين أنظارهم على «مقاصد» الشريعة، فاعلين هذه «المقاصد» هى المعيار لما يقبل وما يرفض من القوانين والأحكام التى تأتى بها المستجدات بعد عصر التنزيل.