الأسهم الأمريكية تصعد لمستويات قياسية وسط تفاؤل بشأن اتفاق تجاري محتمل مع أوروبا    رئيس الوزراء يفتتح معرض الهيئة العربية للتصنيع «أتيكو» للصناعات الخشبية    إعلام فلسطينى: 6 شهداء ومصابون جراء قصف الاحتلال مدينة غزة منذ فجر اليوم    "لوفيجارو": مأساة غزة تختبر إنسانية الغرب وعجزه السياسي    ترامب: "الهجرة تقتل أوروبا.. أوقفوا هذا الغزو الرهيب"    الثالث منذ أمس.. وفاة رضيع نتيجة سوء التغذية والمجاعة في غزة    إنتر ميامي يتعاقد مع صديق ميسي    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 4 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    النيابة العامة بالمنيا ترسل لجنة تحقيق إلى بني سويف للتحري عن والدة أطفال دلجا ال6 المتوفيين    الإعدام والمؤبد ل4 متهمين في قضية ثأر بالصف استمرت 8 سنوات    خلال حفلة بمهرجان العلمين .. النجم تامر حسني يعرب عن سعادته وفخره بالعمل مع الكينج محمد منير    وزير الري يتابع مشروع مكافحة الحشائش المائية في البحيرات العظمى    أعرف التفاصيل .. فرص عمل بالأردن بمرتبات تصل إلى 35 ألف جنيه    انطلاق امتحانات الدور الثاني لصفوف النقل بالسويس    تنسيق الجامعات 2025.. تسجيل الرغبات بموقع التنسيق الإلكتروني مجانا    رئيسة وزراء إيطاليا: أؤيد بشدة قيام دولة فلسطين    كمبوديا تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار مع تايلاند    إلغاء مؤتمر نتيجة الثانوية الأزهرية وعدم الاتصال بالأوائل.. قرار جديد من شيخ الأزهر    القضاء الأمريكى يوقف قيود ترامب على منح الجنسية بالولادة    انخفاض اللحوم والزيت.. أسعار السلع الأساسية بالأسواق اليوم (موقع رسمي)    مواعيد مباريات السبت 26 يوليو - ليفربول ضد ميلان.. وإيندهوفن يواجه بلباو    "تأقلمت سريعًا".. صفقة الأهلي الجديدة يتحدث عن فوائد معسكر تونس    "قصص متفوتكش".. محمد صلاح يتسوق في هونج كونج.. نداء عاجل لأفشة.. ورسالة إمام عاشور لزوجته    95 جنيهًا لكيلو البلطي.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    وزير الإسكان يتابع مشروع إنشاء القوس الغربى لمحور اللواء عمر سليمان بمحافظة الإسكندرية    بالأرقام.. الحكومة تضخ 742.5 مليار جنيه لدعم المواطن في موازنة 25/26    انخفاض أسعار الدواجن اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    وفاة الموسيقار زياد الرحباني نجل فيروز عن عمر 69 عامًا    ليلة أسطورية..عمرو دياب يشعل حفل الرياض بأغاني ألبومه الجديد (صور)    من رصاصة فى القلب ل"أهل الكهف".. توفيق الحكيم يُثرى السينما المصرية بكتاباته    أسامة قابيل: من يُحلل الحشيش يُخادع الناس.. فهل يرضى أن يشربه أولاده وأحفاده؟    الرعاية الصحية: 276 منشأة طبية معتمدة ضمن منظومة التأمين الشامل    تشغيل قطارات جديدة على خط مطروح    «موعد أذان المغرب».. مواقيت الصلاة اليوم السبت 26 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    بيراميدز يقترب من صفقة الأهلي.. إبراهيم المنيسي يكشف (فيديو)    بعد ظهور نتيجة الثانوية 2025.. وزارة التعليم: لا يوجد تحسين مجموع للناجحين    الدفاع الألمانية تستعين بأسراب «صراصير» للتجسس والإستطلاع    حظك اليوم السبت 26 يوليو وتوقعات الأبراج    حقوق الإنسان والمواطنة: المصريون يعلمون أكاذيب الإخوان ودعواتهم للتظاهر مشبوهة    التليفزيون هذا المساء.. جمال شقرة: الإخوان لم تقدم شيئا لفلسطين    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    إصابة شاب في مشاجرة وتسمم مزارع بحوادث متفرقة في سوهاج    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    مينا مسعود لليوم السابع: فيلم فى عز الظهر حقق لى حلمى    موعد مباراة ليفربول وميلان الودية اليوم والقنوات الناقلة    «هيسجل إمتى بعيدًا عن ضربات الجزاء؟».. تعليق مثير من الغندور بشأن زيزو مع الأهلي    موعد إجازة المولد النبوي 2025 الرسمية في مصر.. كم يومًا إجازة للموظفين؟    الأوقاف تعقد 27 ندوة بعنوان "ما عال من اقتصد.. ترشيد الطاقة نموذجًا" الأحد    وزير الأوقاف يحيل مجموعة من المخالفات إلى التحقيق العاجل    «بالحبهان والحليب».. حضري المشروب أشهر الهندي الأشهر «المانجو لاسي» لانتعاشه صيفية    «جلسة باديكير ببلاش».. خطوات تنعيم وإصلاح قدمك برمال البحر (الطريقة والخطوات)    الجزار: الأهلي تواصل معي لضمي.. وهذا موقفي من الانتقال ل الزمالك    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    مستشفى الناس تطلق خدمة القسطرة القلبية الطارئة بالتعاون مع وزارة الصحة    «لو شوكة السمك وقفت في حلقك».. جرب الحيلة رقم 3 للتخلص منها فورًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحديد الدولة لأجور العمال ( رؤية فقهية)
نشر في الشعب يوم 26 - 12 - 2011

أود أن أنبه هنا على حقيقة شرعية مهمة ، قد يغفل عنها كثير من الناس ، أو يجهلونها من شريعة الإسلام ، وهي : أن وظيفة الدولة في الإسلام ليست مقصورة على حماية الأمن الداخلي ، والدفاع أمام الغزو الخارجي ، وليست مهمتها كما عرف في بعض المذاهب الاقتصادية حماية الذين يملكون من الذين لا يملكون! إنما هي مهمة إيجابية شاملة ومرنة في الوقت ذاته ، بحيث تتسع دائرتها لكل التصرفات والإجراءات التي من شأنها أن ترفع الظلم ، وتقيم العدل بين الناس وتزيل عنهم الضرر والضرار ، وأسباب النزاع والصراع ، ليحل محله التعاون والإخاء . ودليلنا على ذلك :
1. أن مسؤولية الدولة التي يمثلها الإمام في الإسلام مسؤولية مطلقه غير مقيدة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع ، وهو مسؤول عن رعيته ... الحديث ) . وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول : ( لو هلك جدي بشط الفرات ، لرأيتني مسؤولا عنه أمام الله يوم القيامة ) . فهذا شعور بالمسؤولية عن الحيوان فكيف بالإنسان ؟
2. أن إقامة العدل في حياة الناس هدف من أهداف الإسلام الكبرى ، به قامت السموات والأرض ، وبه بعث الله الرسل ، وأنزل الكتب : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد : 25 والقسط هو العدل الذي به يتحقق التعادل أو التوازن بين الأشياء دون ميل أو جور ، أو طغيان من جانب على جانب ، ولعل في ذلك الميزان هنا وفي آيات أخرى ما يشير إلى ضرورة التوازن في الحياة الإنسانية ، ولهذا عظم الله الميزان فقرنه بالكتاب في آيتين ، وقرنه برفع السماء في سورة الرحمن حين قال : ( والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) الرحمن : 7-9 . ولا غرو أن يبارك الإسلام إقامة توازن عادل بين أرباب العمل والعاملين ، وبين الملاك والمستأجرين ، وبين المنتجين والمستهلكين ، وبين البائعين والمشترين ، وذلك بمنع طغيان بعضهم على بعض ، وإزالته إن وقع . وقد أمر الله تعالى أولي الأمر بواجبين أساسيين : أداء الأمانات والحكم بالعدل : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) سورة النساء : 58. فكل ما يقتضيه إقامة العدل ورفع الظلم من تشريعات وإجراءات ، فالشريعة ترحب به .
3. أن الشريعة الإسلامية تحرص على منع الضرر والضرار قبل وقوعهما ، وإزالتهما بعد الوقوع . وقد جاء في الحديث الشريف : ( لا ضرر ولا ضرار ) وأصبح هذا من القواعد الكلية المقطوع بها في الفقه الإسلامي ، وفي القرآن الكريم آيات شتى تؤكد هذا المعنى . وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة فروعًا شتى منها : أن الضرر يزال ، وأن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام ، والأدنى يتحمل لدفع الأعلى ..الخ . فكل قانون أو تصرف يمنع إضرار الناس بعضهم لبعض ، فإن الشريعة تتسع له ، وتعتبره مبنيًا على أصولها وقواعدها ، ولهذا لم يعترض أحد من علماء الشرع على قانون كقانون المرور الذي ينظم السير ، ويضع بعض القيود على أصحاب السيارات وأمثالهم ، لمصلحتهم ومصلحة المجموع ، وإيقاع الجزاء على من يخالف ذلك . وإذا كنا حريصين على منع تصادم السيارات حرصًا على سلامة الأفراد ، فأولى أن نحرص على منع تصادم فئات المجتمع بعضها ببعض ، حرصًا على سلامة الجماعة كلها .
4. أن السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي - باب واسع أمام الدولة المسلمة ، تستطيع أن تلج منه لتحقيق ما تراه من إصلاحات مناسبة، أو سن ما تراه من قوانين صالحة، أو اتخاذ ما تراه من إجراءات وقائية أو علاجية لظاهرة معينة ، ما دامت لا تعارض نصًا محكمًا ، ولا قاعدة ثابتة ، فكل ما يرى ولي الأمر فعله أقرب إلى الصلاح للرعية ، وأبعد عن الفساد ، فله أن يفعله ، بل قد يجب عليه ، وإن لم يجيء بذلك نص خاص ، ولهذا قام الصحابة والخلفاء الراشدون بأعمال عديدة رأوا فيها خيرًا ومصلحة ، ولم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم قبلهم ، ولا أذن لهم بفعلها بنص جزئي . وهنا يحسن نقل الحوار الذي سجله المحقق ابن القيم ، وقد جرى بين العلامة ابن عقيل الحنبلي وبعض الشافعية ، لنتبين سعة آفاق السياسة الشرعية التي أشرنا إليها ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ، ص13،14): وقال ابن عقيل في الفنون : جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم . ولا يخلو من القول به إمام . فقال شافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وابعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي . فإن أردت بقولك " إلا ما وافق الشرع " أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح . وإن أردت : لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط ، وتغليط للصحابة . فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن . ولو لم يكن إلا تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف ، فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد ، فقال :
لما رأيت الأمر أمرًا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج .اه . وقال ابن القيم : وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، ومعترك صعب . فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد . وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها . وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا : إنها حق مطابق للواقع ، ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع . ولعمر الله ، إنها لم تناف ما جاء به الرسول ، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم . والذي أوجب لهم ذلك : نوع تقصير في معرفة الشريعة ، وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك ، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًا طويلا ، وفسادًا عريضًا . فتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك ، واستنقاذها من تلك المهالك . وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة ، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله . وكلا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به ورسوله ، وأنزل به كتابه . فإن الله سبحانه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل ،وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه . " فلا يقال : إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه . ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات " .
وجوب إنصاف العامل
ومن هنا نقول : إن الشريعة التي سبقت مذاهب العالم وأنظمته بوجوب إنصاف العامل وإيفائه حقه بمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (رواه ابن ماجة عن ابن عمر وعبد الرازق عن أبي هريرة والطبراني عن جابر والحكيم الترمذي عن أنس وطرقه ضعيفة ولكن يقوي بعضها بعضًا ولذا ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير). وقوله في الثلاثة الذين يخاصمهم الله يوم القيامة : ( ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ، ولم يعطه أجره ) (رواه البخاري عن أبي هريرة . ) .
هذه الشريعة لا يضيق صدرها بسن تشريعات تضمن للعمال أجورًا عادلة ، وتقيم التعامل بينهم وبين أصحاب العمل على أساس مكين ، حتى لا يبغي قوي على ضعيف ، ولا تستغل فئة لصالح فئة أخرى ، ولا تبقى هناك ثغرة مفتوحة يتسلل منها أصحاب المذاهب الهدامة للتأثير على العمال ، ومحاولة كسبهم إلي صفهم ، وإيهامهم أنهم وحدهم المدافعون عن حقوقهم ، الحريصون على مصالحهم .
وهذا الذي نقوله اليوم قد قرره المحققون من فقهائنا منذ قرون، فأجازوا لولي الأمر عند الحاجة أن يتدخل بين العمال ومن يستخدمهم في عدة صور ، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن " الحسبة " وبين الهدف من هذا التدخل ، وهو منع الظلم من فرد لآخر ، أو من فريق لغيره ، وإلزام الجميع بالعدل الذي أمر الله به . من ذلك : أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة . كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك ، فلولي الأمر أن يلزمهم ذلك بأجرة مثلهم ، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك .
ويعود لذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد قليل فيقول: "والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد، صارت فرض عين عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، ويجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم، بأن يعطوهم دون حقهم ...
ويعقب على ذلك ابن تيميه فيقول : " وهذا من التسعير الواجب ، فهذا تسعير في الأعمال " . وأجرة المثل ، أو عوض المثل ، الذي ذكره فقهاؤنا يقصد به الأجر العادل الذي يستحقه مثله في مقابل عمله ، مع مراعاة كل الظروف والعوامل التي لها علاقة بتحديد قيمة العمل ، وتعيين مقدار الأجر المناسب ، دون ظلم للعامل ، ولا لمن يستعمله .
الأصل هو حرية السوق
بل نقول أكثر من هذا : إن فقهاء الإسلام منذ عهد التابعين أجازوا تدخل أولي الأمر لتسعير السلع والأشياء عند الحاجة ، مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من امتناعه عن التسعير في زمنه ، وعدم استجابته عندما طلبوا منه ذلك عند غلاء الأسعار . فقد روى أنس : أن السعر غلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : ( إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن القى الله ، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال )(رواه أبو داود والترمذي وصححه ). والحديث يدل على أن الأصل هو حرية السوق ، وتركها للقوانين الطبيعية دون تدخل مفتعل ، ولكن إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية ، من جهة المتلاعبين أو المحتكرين أو المستغلين لحاجات الناس ، وكانت مصلحة جمهور الناس تقتضي التدخل من السلطة الشرعية بالتسعير أو التحديد أو الإلزام ، فإن التدخل حينئذ يكون من شرع الله .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما التعسير ، فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباح الله لهم ، فهو حرام . وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل ، فهو جائز ، بل واجب .
فأما القسم الأول ، فمثل ما روى أنس .. وذكر الحديث السابق . فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم ، وقد ارتفع السعر ، إما لقلة الشيء ، وإما لكثرة الخلق ( إشارة إلى قانون العرض والطلب ) فهذا إلى الله ، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل . والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به.
ثم يعود الشيخ ابن تيمية للموضوع بعد أن ذكر ما مر عن التسعير في الأعمال فيقول : " وأما التسعير في الأموال . فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد والآلات ، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن ...
" قال : " وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ، ولا من يبيع طحينًا وخبزًا ، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد ، بل يشتريه الناس من الجلابين . ولهذا جاء في الحديث : ( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ) . وكذلك لم يكن في المدينة حائك ( أي نساج ) بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما ، فيشترونها ويلبسونها .
ويقول شيخ الإسلام : ومن احتج على منع التسعير مطلقًا ، بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله هو المسعر ...الخ الحديث ) . قيل له : هذه قضية معينة ، وليست لفظًا عامًا ، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه . ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا بذله صاحبه - كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهذا لا يسعر عليهم . وفي ختام الحديث عن التسعير وما يتعلق به يقول : " وجماع الأمر : أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير ، سعر عليهم تسعير عدل ، لا وكس ولا شطط ، وإذا اندفعت حاجتهم ، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل " . فالمحور الذي تدور حوله الأحكام المتعلقة بالتسعير أو عدمه ، هو تحقيق المصلحة للناس ، ودفع المفاسد عنهم . وإذا كان هذا هو الرأي المعتبر في مشروعية تسعير السلع ، مع ما ورد فيها من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير ، وإشارته إلى أن ذلك مظلمة يحبّ أن يلقى الله بريئًا من تبعتها ، فكيف لا يجوز ( تحديد الأجور ) أو ( تسعير الأعمال ) على حد تعبير ابن تيمية ، مع الحاجة إليه ، وتعلق المصلحة به ، ومع عدم ورود نص يمنع ذلك ؟ والأصل في الأشياء الإباحة ، كما أن الأصل في كل ما جاءت به الشريعة هو إقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد .
والخلاصة :
أن الشريعة ترحب بتدخل الدولة المسلمة لتحديد أجور العمال ، إذا اقتضت ذلك الحاجة والمصلحة ، وإقامة العدل ورفع الظلم ، ومنع أسباب النزاع والصراع ، والضرر والضرار ، بشرط أن تعتمد في ذلك على أهل الخبرة والديانة الذين يستطيعون تقدير الأجور تقديرًا عادلا ، دون حيف على العمال أو أصحاب الأعمال ، أو محاباة لأحد الفريقين ، كما يدخل في ذلك جواز تدخل الدولة لتحديد ساعات العمل والإجازات الأسبوعية والسنوية والمرضية ونحوها . ومثل ذلك ما يتعلق بالمكافآت والمعاشات ، مما تقتضيه أوضاع العصر ، وتعقد الحياة فيه ، وحاجة الناس فيه إلى قواعد مضبوطة للتعامل ، حيث لم تعد ضمائر الناس - كما كانت من قبل - من الحيوية والنقاء ، بحيث تكفي لأداء الأمانات ، ورعاية الحقوق ، دون تدخل السلطة ، وهذا ما جعل فقهاءنا يقرون أن الفتوى تتغير بتغير الأزمان والأمكنة ، والأحوال والعوائد ، فهذا كله وأمثاله داخل في السياسة الشرعية الرحبة المجال ، الواسعة الأبواب .
عن كتاب "هدي الإسلام" أو "فتاوى معاصرة" للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي ، الطبعة الأولى الإصدار 2003م ، سلسلة صدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء، هي حافلة بالموضوعات المتنوعة، في المجالات المتعددة، في حياة الفرد المسلم المعاصر، وفي حياة الأسرة المسلمة، وحياة المجتمع المسلم، وحياة الأمة المسلمة. فالنهج الذي التزمه الشيخ القرضاوي هو (النهج الوسط) الذي يجمع بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة، وينظر إلى تراث أمتنا الغني بعين، وإلى عصرنا ومشكلاته بالعين الأخرى، محتفظا بكل قديم صالح، ومرحبا بكل جديد نافع، ثابتا في الأهداف والكليات، مرنا في الوسائل والجزئيات، مشددا في الأصول، ميسراً في الفروع، غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا محبوس في مدرسة من المدارس، ولا مبهور بإمام من الأئمة، بل أخذ من الجميع، واستفاد من الجميع، دون أن يطعن في مذهب أو إمام، فكلهم قدوة، وكلهم إلى خير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.