ولم يكن اغتيال الرئيس السادات فى 6 أكتوبر 1981 – الذى خطط له ونفّذه تنظيم يتخذ اسم الجماعة الإسلامية – هو الهدف النهائى لهذا التنظيم ولكن عملية الاغتيال كانت خطوة وجزءًا من مخطط انقلابى يهدف لسيطرة التنظيم على السلطة والحكم فى مصر، وفى هذه الخطة كانت هناك خطوات أخرى منها مثلا السيطرة على الإعلام الرسمى عبر اقتحام مبنى الإذاعة والتليفزيون، والسيطرة على بعض مفاصل الدولة الأخرى عبر الاستيلاء على عدد من المنشآت الحيوية فى مناطق مختلفة من الجمهورية، والعملية الأكبر فى المخطط كانت تهدف إلى السيطرة على إحدى محافظات الصعيد لاتخاذها قاعدة انطلاق للسيطرة على حكم مصر، ووجد التنظيم أن الإعلان القوى والعنيف عن هذا لن يأتى إلا من خلال مهاجمة رمز الدولة والمقاومة لهم فى محافظة غير مركزية ونائية مثل أسيوط، وهذا الرمز أيضًا هو العدو الأول للتنظيم والمقصود به الداخلية أو قوات الشرطة. (1) فى 8 أكتوبر 1981 هاجم أفراد من الجناح العسكرى لتنظيم الجماعة الإسلامية مبنى مديرية أمن أسيوط وبعض المقار الشرطية التابعة مستغلين حالة عدم الاستقرار الناتجة عن عملية اغتيال الرئيس التى وقعت فى العاصمة قبل (48 ساعة) ويبدو أن المهاجمين لم يتوقعوا استعداد الداخلية لصدهم بالكيفية التى حدثت فى المواجهة، ولم تفشل فقط محاولتهم الساذجة ولكن تخلف عنها خسائر كبيرة فى صفوفهم، هذا غير القبض على عدد أيضًا غير قليل من أفراد التنظيم. ومضت الأيام التى أعقبت اغتيال السادات دون أن يحقق الجهاديون المصريون خطوات تذكر نحو هدفهم النهائى، وأتت حقبة الثمانينيات ليدخلوا معها فى طور جديد من أطوارهم بعد سفر عدد كبير منهم إلى أفغانستان التى كان السوفيت قد احتلوها بداية الثمانينيات فى عملية بدأ التاريخ الرسمى لها فى 25 ديسمبر 1979. رحل إلى أفغانستان عدد كبير من الجهاديين ليس من مصر فقط ولكن من معظم الأقطار العربية مدفوعين برعاية عربية – غربية رسمية غاية فى الذكاء والخبث فى آن واحد وهدفها المعلن هو مقاومة عدو شيوعى كافر احتل دور من ديار الإسلام، وهذا لا يمنع أن بعض التنظيمات والجماعات الجهادية وجدت فى الذهاب إلى أفغانستان متنفسًا للهروب ومجالا حيويًا جديدًا لتأسيس قاعدة انطلاق يتم من خلالها إحياء التنظيمات الجهادية التى تم التضييق عليها فى بلادها الأصلية ومنها مصر. (2) والدارس لتاريخ ما اصطلح عليه «جماعات الإسلام السياسى» يستطيع أن يفرّق جيدًا بين الإخوان المسلمين كتنظيم يستهدف الوصول إلى الحكم والسلطة وبين تنظيمات أخرى مثل الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد وغيرهما من السلفية الجهادية التى تسعى إلى نفس الهدف لكنها تختلف عن الإخوان فى أمور كثيرة من حيث الأفكار والآليات والعمل على الأرض، ونستطيع فى هذا السياق أن نجزم أن الجماعة الإسلامية التى خرج من رحمها جماعة الجهاد قد تشكّلت وولدت خارج إطار الإخوان بل إن أحد أهم أسباب تأسيسها فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى كان رفض الإخوان التعاون مع الرئيس السادات فى حربه ضد خصومه من اليساريين والناصريين وخاصة فى الأوساط الطلابية الجامعية، ولم يكن السادات صاحب هذه الفكرة ولكنه محمد عثمان إسماعيل أحد وزرائه ومستشاريه المغمورين فى هذا التاريخ، وقد حكى الأخير فى مذكرات منشورة لكاتب هذه السطور تفاصيل هذه العملية وفيها أن صديق السادات المبهور بالشكل التنظيمي للإخوان الكاره للناصريين واليساريين والشيوعيين ذهب يقترح علي الرئيس فكرة أن يطلق حرية العمل لجماعة الإخوان المحظورة رسميًا لتصنع ما يشبه المعادلة لأفكار خصومه وتخفف من وطأة الحراك الطلابى المعارض لخليفة عبد الناصر فى الجامعات. ووافق السادات من حيث المبدأ على الفكرة وذهب محمد عثمان فرحًا بمبادرته يعرضها على مرشد الإخوان عمر التلمسانى، وبعد أخذ ورد أبلغه التلمسانى رفضه للمبادرة المشروطة من السادات بتغيير اسم الجماعة وحل تنظيمها السري، قال التلمسانى الأريب لوزير السادات إن الأخير يريد أن يستخدمنا لتحقيق أهدافه، وأنه لا يملك هو ولا غيره تغيير اسم الجماعة لأنه تنظيم دولى وعندما أسقط فى يد الوزير وأراد ألا يعود لرئيسه السادات بفشل مسعاه، عاد ليقترح عليه أن يتولى هو تنفيذ المهمة فمنحه الضوء الأخضر، وذهب الوزير عبر مدير مكتبه يسعى لإحياء النزعة الإسلامية بين طلبة الجامعة من خلال أمور بسيطة مثل تقديم بعض الخدمات للطلبة الفقراء وتنظيم مسابقات لتحفيظ القرآن جوائزها الحج والعمرة، ومضت الأمور على هذا المنوال عدة شهور أو قل عامًا وبعض العام، والتجربة تحقق أهدافها فى أوساط الطلبة هذا قبل أن يتركها محمد عثمان إسماعيل لغيره ويذهب محافظًا لأسيوط المنذرة ببوادر فتنة طائفية لا تحتملها الدولة وهى تتجهز لحرب التحرير والثأر من العدو الصهيونى. آخرون ينتمون لنظام السادات واصلوا ما بدأه إسماعيل مثل د. محمود جامع، وعثمان أحمد عثمان وغيرهما، وكان هذا يحدث بينما وزارة الداخلية ووزيرها فى هذا التاريخ ممدوح إسماعيل يدركون خطورة اللعبة وهم أول من يحترق بنيرانها لذلك بدأوا يضيّقون على الإسلاميين فى مقراتهم بالجامعات والمدن الجامعية مما دعا الطلاب للخروج إلى الشارع والاجتماع فى المساجد وهو ما أغرى آخرين من البسطاء للاختلاط بهؤلاء الشبان وفى مرحلة تالية انخرط الجميع فى تشكيل تنظيمات حركية لم تقتصر على طلبة الجامعات. كانت تلك هى البداية لتشكيل ما عرف فيما بعد بالجماعات الجهادية السلفية التى انفصلت حركيًا عن الإخوان منذ البداية وآليات العمل لكنها تماهت معهم فكريًا فيما يتعلق برفض الدولة فى شكلها الذى عرفته مصر فى تاريخها الحديث خلال القرن العشرين. (3) فى سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين وبينما يشهد المجتمع المصرى تحولات جذرية فى ثقافته نحو حضارة الغرب ومستحدثاتها كان هناك دائما هذا المشهد اللافت لانتباه كثير من خبراء علم الاجتماع والمحللين السياسيين والإعلام، فيما لم يحاول العامة الذهاب إلى أبعد من ظاهره الذى يعكس أن بعض الشباب الملتزم يسعى لكسب الرزق. شاب يبسط فرشة أمام أحد المساجد الكبيرة أو الصغيرة ويعرض عليها بضاعته التى يظن أنها تعكس ثقافته ولا تزيد هذه البضاعة عن كتب التراث الإسلامى أو العطور الشرقية الرخيصة والطواقى والسبح وأدوية الطبيعة العشبية، ولم ينتبه كثيرون إلى أن من بين هؤلاء الشبان من تعلم أو تخرج فى كليات مرموقة مثل الطب أو الهندسة لكنه فضل هذا الشكل البسيط من التجارة على التوظف فى الدولة الكافرة، ولم يكن هذا لا يعنى فى حقيقته إلا إعلان لمفارقة هذه الدولة ورفضها، ولم يكتف بعضهم بهذا الشكل من الرفض ولكنه سعى من خلال العمل الجهادى – حسب مفهوم الجماعة التى هو عضو فيها أو حسب فهمه هو الشخصى - لإقامة الشكل الإسلامى من الدولة، هذه الفكرة التى تمثل حجر الزاوية فى الفكر الجهادى الذى يتسرب برداء الإسلام وإنشاء هذه الدولة فى أذهانهم يتطلب إعادة المسلمين إلى دينهم عبر تحكيم شرع الله في الشعوب، فإذا ما حدث هذا فقد بدأ الطريق لإحياء الخلافة الإسلامية انطلاقًا من قاعدة جغرافية تمثلها إمارة أو كيان سياسى إسلامى، هذه هى الأفكار الأساسية التى دعت هؤلاء التكفيريين لمحاربة الأنظمة السياسية القائمة والتى برونها تحاكى الشكل الغربى وتفارق الشريعة حيث لا تقر الحدود مثلا وترتبط بعلاقات مع الصهاينة والغرب الكافر وغير ذلك من أسباب الرفض للحكام والأنظمة التى أخرجتهم من الملة. (4) واستمرت أعمال العنف والاغتيالات من الجهاديين الذين عاد بعضهم ممن عرفوا ب «الأفغان العرب» إلى أوطانهم الأصلية بعد طرد السوفيت من أفغانستان نهاية الثمانينيات وخرجت أجيال وتنظيمات جديدة خلال التسعينيات قبل أن يعلن بعض قادة الجماعة الإسلامية الأوائل لمبادرة وقف العنف من داخل السجون المصرية فى تحول درامى كبير اعتمد على دراسات وأسانيد شرعية وضعها له منظرهم المشهور سيد إمام الذى بزغ نجمه فى أفغانستان واشتهر باسم الدكتور فضل، وخرج أصحاب هذه المبادرة من السجون يطلون على المجتمع المصرى باجتهادات اعتذارية عن ماضيهم بينما رفضت رموز أخرى تنتمى أيضًا للجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد هذه المبادرات ومنهم على سبيل المثال محمد خليل الحكايمة المشهور بأبوجهاد وهو أحد مؤسسى الجماعة الإسلامية بأسوان وهو أحد زعماء الجماعة فى الخارج وقد عاد مرة أخرى إلى أفغانستان لجهاد الأمريكان أو الصليبيين الجدد هذه المرة قبل أن يقتله الأمريكان عام 2008 ولم يكن الحكايمة هو المثال الوحيد للرفض لكن آخرين انضموا لتنظيم القاعدة وكثيرٌ منهم عادوا إلى مصر بعد وصول الإخوان إلى الحكم وقد كان بعضهم مطلوبًا للعدالة وتم العفو عنه بقرارات رئاسية. كانت المراجعات تواصل عملها فى أوساط بعض شباب الإسلاميين من الجهاديين فيتخلون عن أفكار العنف بينما تتشكل فى نفس الوقت تنظيمات أخرى فى سيناء تحديدا بعيدًا عن أضواء العاصمة وأجهزة الأمن وتنمو سرطانيًا وتنشط خاصة مع الفوضى التى أعقبت ثورة 25 يناير لتفاجئنا بهذا العنف المتفجر بعد 3 يوليو 2013 فى هجمة أصابت كثير من المصريين بالقلق والخوف إلى حد غير مسبوق فى تاريخنا المنظور خاصة وأن هذا العنف أو قل هذه الحرب ضد الدولة المصرية فى الداخل يأتى من بعض أبنائها وللأسف يتواكب هذا مع حرب من الخارج لاستهداف هذه الدولة على غرار ما أصاب عدد من الدول الشقيقة التى ضربتها ثورات الربيع من الداخل أو نجحت فيها مخططات التقسيم الطائفى والعرقى.