عندما يكتمل بناء سد النهضة الأثيوبي قد تظل مصر عامين كاملين دون قطرة ماء جديدة تضاف إلى النيل! هكذا قال الخبير المائى البارز د. ضياء الدين القوصى. وهل تعلمون مدى خطورة أن نظل عامين كاملين دون قطرة ماء جديدة؟ وكيف ستتأثر مظاهر الحياة فى أرض الكنانة؟ بل كيف سيتغير وجهها المرهق أصلاً بالمشاكل والهموم والغموم؟! وهل ننتظر حتى تقع كارثة السدود الخمسة التى تبنيها «الإمبراطورية الحبشية» وتصبح أمرًا واقعًا لا مفر منه وتحبس أديس أبابا أنفاسنا وتحصد أرواحنا؟! هذه هى القضية الأخطر التى يجب أن نهتم بها الآن وليس غدًا.. وقبل أن يفوت أوانها تمامًا، فإذا اكتملت السدود الخمسة ستحجز أثيوبيا ما لا يقل عن مائتى مليار متر مكعب من المياه لديها وهى ليست بحاجة إلى هذه الكمية الهائلة من المياه.. فضلاً عن هطول الأمطار بغزارة على الهضبة الأثيوبية. وعندما نعلم أن هناك إدارة لشئون «الأنهار العابرة للحدود» بوزارة المياه والرى الأثيوبية ندرك مدى الطموحات الإمبراطورية لأحفاد هيلاسلاسى الذين يريدون ركوب سفينة المياه للعبور إلى الآفاق الأفريقية والإقليمية ويحاولون استعادة أمجاد قديمة قد لا تناسب العصر الراهن. والحقيقة أن أثيوبيا لا تتحرك بمفردها أو بوازع وطنى بحت أو لتحقيق مصالح اقتصادية خالصة بل يتم تحريكها وتوظيفها فى إطار الاستراتيجيات الغربية والشرقية أيضًا لإعادة بناء هذه المنطقة وترتيب أوضاعها وإعلاء أقزام ورفع أقوام وخفض آخرين، ولعل إسرائيل هى الطرف الأول الذى يلعب مع أثيوبيا ويتلاعب بها كوسيلة من وسائل الضغط على العرب عمومًا وعلى مصر تحديدًا فتتحول وجهة المواجهة التاريخية من الشمال الشرقى إلى الجنوب الشرقى. وقد ساهمت أثيوبيا فى إذكاء الصراعات فى السودان وفصل الجنوب، كما تساهم الآن فى جهود المصالحة بين طرفى النزاع فى الجنوب بل وبين أطراف الصراع فى السودان كله، وعندما نشأ صراع المياه زاد النفوذ الأثيوبى فى السودان الذى لم يعد كما كان نتيجة انفصال الجنوب وبسبب المناوشات الداخلية.. واستغل أحفاد هيلاسلاسى هذا الوضع للتدخل وبسط نفوذهم ليس من خلال سلاح المياه فقط ولكن من خلال أطراف أكثر ولاءً لهم وأقرب إليهم من الخرطوم. ونجحت أثيوبيا فى عقد اتفاق جديد لحوض النيل وقّعت عليه أغلب الدول.. عدا السودان ومصر.. بل إن السودان أصبح أقرب للموقف الأثيوبى نتيجة التطورات السياسية الأخيرة.. وبسبب الأمر الواقع الذى جعل أديس أبابا فى وضع إقليمى أكثر قوة وتأثيرًا.. خاصة مع تراجع دور مصر وانشغالها بهمومها. ومن الواضح أن الموقف الأثيوبى من أزمة المياه ومن العلاقات مع مصر أكثر تشددًا.. وأعلنت أثيوبيا صراحة أنها لن تتفاوض على اتفاقية المياه الجديدة كما رفضت مطالب القاهرة بتعديل مواصفات سد النهضة.. وهذه المواقف الأثيوبية المتصاعدة تأتى فى إطار استراتيجية مرسومة «لها ومعها» لتحجيم دور مصر.. وتوسيع النفوذ الأثيوبى فى القرن الأفريقى أولاً ثم الانطلاق إلى القارة السمراء بل أننا يجب أن نستعد لاحتمال امتداد النفوذ الأثيوبى إلى شمال شرق القارة باستغلال سلاح المياه.. وأسلحة التآمر مع الغرب عمومًا وإسرائيل تحديدًا. والمتابع للتحركات الدبلوماسية الأثيوبية يلاحظ أنها تصل إلى جيبوتي والسودان وكينيا.. إلى آخر القائمة الأفريقية التى تحلم بها الإمبراطورية الأثيوبية. ولكن أديس أبابا يجب أن تدرك أن من يستغلونها لتحقيق أهدافهم لن يسمحوا لها بتجاوز الخطوط الحمراء المحددة.. وأن زمن الإمبراطوريات قد ولى إلى غير رجعة.. فأحلام الفرس لن تعود.. وأوهام السلاطين قد تبددت.. كما أن الأطراف الأخرى التى يسعون إلى تهميشها وتحجيمها لن تقف مكتوفة الأيدى.. ولن تصمت إزاء هذه التجاوزات الأثيوبية التى قد تصل إلى حد الاختيار بين (الحياة أو الموت). فإذا وصلنا إلى هذه النقطة.. فالحياة هى الخيار الوحيد.. ولن نقبل بأن نموت عطشًا أو جوعًا.. أو أن يتراجع دورنا تحت أى ضغط.. مهما كان الثمن. وحتى لا نصل إلى هذه المرحلة التى يعاد فيها «بناء الشر» الأوسط الجديد مع تهميش دور مصر.. فإننا يجب أن نسارع بمواجهة أحلام الإمبراطورية الأثيوبية على النحو التالى: ? أولاً: التهديد برفع القضية إلى المحاكم الدولية والمؤسسات الدولية بما فى ذلك الأممالمتحدة.. وإذا كانت بعض قرارات مجلس الأمن قد صدرت استنادًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة فإن من حقنا الحفاظ على الوجود المصرى بقرار مماثل يجيز استخدام القوة إذا وصلت المفاوضات إلى نقطة مسدودة. وإذا كان الغرب قد غزا دولاً وقتل الملايين لمجرد شبهات حول أسلحة دمار أو تنظيم إرهابى دولى هُلامى صنعه هو.. فإن من حق مصر الدفاع عن بقائها ومستقبل أجيالها بما هو أشد وأكثر إلحاحًا.. من أوهام أسلحة الدمار أو زعيم مزعوم.. صنعوه ثم ضيعوه.. وألقوا به فى غياهب الظلمات بمعنى آخر.. فإن التحرك المصرى يجب أن يستند إلى الشرعية الدولية.. وإلى قرار يجيز استخدام القوة.. للحفاظ على أعرق حضارات الأرض وحماية نحو مائة مليون مصرى تهددهم دولة أخرى بالفناء. ? ثانيًا: ممارسة الضغوط على المؤسسات والشركات والدول التى تمول بناء سدود الموت الأثيوبية لمنع تمويلها.. فلا يمكن أن تكون هذه الأطراف صديقة لمصر.. وهى تسعى لقتل شعبها وإبادته بمنع أغلى وأهم موارد الحياة عنه (الماء).. فإن صداقاتنا وعلاقاتنا بهذه الدول يجب أن تقوم بناءً على موقفها من تمويل سدود الموت الأثيوبية.. سلبًا وإيجابًا. ? ثالثاً: يجب أن تعلم إسرائيل أن أمنها وسلامتها بحسن الجوار والعلاقات السوية مع مصر.. دون تآمر أو تلاعب مع الآخرين وتحديدًا أثيوبيا.. وإذا ظنت إسرائيل أن أمنها يكمن فى أديس أبابا.. فإن جوارها واتفاقاتها السياسية مع مصر أهم وأبقى من هذه المناورات المكشوفة والمؤامرات المفضوحة.. فإن لدى مصر وسائل ضغط على إسرائيل.. سوف تستخدمها عند الضرورة.. وإذا وصلت إلى مرحلة التهديد المائى المباشر بالتآمر مع أثيوبيا ولإسرائيل أن تختار وتحسن اتخاذ القرار حفاظًا على أمنها ومصالحها ومستقبلها. ? رابعًا: استغلال رأس المال العربى الخليجى للضغط على أديس أبابا وتعديل مواصفات وأحجام السدود الأثيوبية خاصة أن بعض الدول العربية الثرية لديها استثمارات كبيرة فى أثيوبيا.. وربما تراها ساحة أكثر أمانًا للاستثمار.. بغض النظر عن الروابط التاريخية الوثيقة مع مصر. وليعلم الأصدقاء العرب أن أرض الكنانة كانت سنداً لهم وستظل كذلك بمشيئة الله.. وعلى رأس المال العربى أن يدرك أن الكثبان السياسية المتحركة.. قد تنتقل إلى الإمبراطورية الأثيوبية.. وأن أرض الكنانة سوف تظل الملاذ الأكثر أمنًا.. رغم كل ما تشهده من أزمات وتطورات عابرة. ? خامسًا: استثمار دور الأزهر والكنيسة المصرية وعلاقتهما الأفريقية الواسعة.. فكثير من المسئولين الأفارقة درسوا فى الأزهر وعاشوا فى أرض الكنانة.. وشربوا من نيلها ولا ينسون فضلها ولكننا لا نستطيع تسويق بضاعتنا بصورة مثالية.. ونهدر أغلى الفرص بأيدينا - للأسف الشديد - كما أن الكنيسة المصرية ذات مكانة رفيعة فى أفريقيا وتحظى بعلاقات قديمة مع «الحبشة».. ويمكن أن تساهم فى بناء جسور الثقة واستعادة الود المفقود معها. ? سادسًا: تكثيف علاقات التعاون الاقتصادى والتجارى والثقافى والشعبى مع دول حوض النيل - خاصة أثيوبيا - وخلق قنوات للتفاهم بين أبناء هذا التجمع الحيوى.. بما فى ذلك استثمار الأنشطة الاجتماعية والرياضية. ومن خلال هذه العلاقات الشعبية يمكن خلق وعى يساعد على حل هذه الأزمات بصورة سلمية وودية. *** أخيرًا يجب أن تدرك أثيوبيا أن زمن الإمبراطوريات قد ولى ولن يعود.. كما أن التفاهم المباشر والحوار البناء هو الأسلوب الأمثل للتعايش مع الآخرين، ولتدرك أديس أبابا أن التآمر ضد مصر سوف يضرها فى نهاية المطاف وقد تنهار سدود الشر كما ينهار الشر الأوسط الجديد!