للمرة الثالثة على التوالى أكتب عن سد النهضة الأثيوبى.. موضوعات كثيرة وقضايا عديدة تغرى بالكتابة لكن موضوع السد فى الحقيقة هو الأخطر والأكثر إلحاحا.. على الأقل بالنسبة لى.. فليس هناك أهم من وجهة نظرى من تأمين نقطة المياه لنا ولأبنائنا ولأحفادنا. فى المرتين السابقتين كتبت معتمدا على التقرير المبدئى للجنة الثلاثية المكلفة بتقييم السد وتحديد آثاره.. وكان انطباعى أن التقرير المبدئى لا يصلح لوضع كل النقاط فوق كل الحروف. هذه المرة صدر التقرير النهائى للجنة الثلاثية وتصورت أن الوقت قد حان لوضع كل النقاط فوق كل الحروف.. لكننى اكتشفت أنه حتى التقرير النهائى لا يصلح لذلك.. بل إنه فى الحقيقة يطرح تساؤلات كثيرة.. ليس لها إجابات!. ولعل أول ما يلفت النظر للتقرير النهائى هو ما تضمنه من معلومات عن طريقة تعامل أثيوبيا مع أعضاء اللجنة الثلاثية. اللجنة الثلاثية بالمناسبة مكونة من 10 أعضاء اثنين من مصر واثنين من السودان واثنين من أثيوبيا، بالإضافة إلى أربعة خبراء دوليين فى مجالات المياه والبيئة والسدود.. وهؤلاء ينتمون إلى انجلترا وفرنسا وألمانيا وجنوب أفريقيا. المهم أن اللجنة بهذا التشكيل أصبحت لجنة دولية وكان مفترضا أن تتعاون أثيوبيا معها وتمدها بكل ما تحتاجه من دراسات فنية تخص سد النهضة.. وقد فعلت أثيوبيا لكنها لم تقدم للجنة إلا الدراسات التمهيدية ولم تقدم لها أية دراسات تفصيلية. ومن المتعارف عليه دوليا أن تلك الدراسات التمهيدية لابد أن تتبعها دراسات تفصيلية.. لكن ذلك لم يحدث على أية حال. الأغرب من ذلك أن الدراسات التى قدمتها أثيوبيا للجنة الثلاثية لم تتضمن أية دراسات عن الآثار السلبية للسد على دولتى المصب.. مصر والسودان.. بشكل سليم وواف، بالإضافة إلى عدم تقديم الدراسات الخاصة بتوليد الطاقة الكهربائية ودراسة الجدوى الاقتصادية ودراسة تأثيرات انهيار السد. كأن أثيوبيا تعمدت تضليل اللجنة الثلاثية وإخفاء الحقائق عنها.. لماذا؟!.. الله وحده يعلم!. الخبراء المصريون - أعضاء اللجنة الثلاثية - لم يسكتوا على أية حال وقاموا بإعداد العديد من الملاحظات الفنية على محتويات الدراسات التى قدمتها أثيوبيا مع ذكر ما لم تشمله الدراسات من متطلبات فنية مهمة لتوضح التأثير على دولتى المصب بصورة دقيقة.. والتى كان من أهمها عدم تقدير الآثار بطريقة دقيقة.. سواء النقص فى احتياجات مصر من المياه وما له من تأثير بل النواحى الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.. أو النقص فى الكهرباء المولدة من السد العالى. والحقيقة أن مصر لم تكتف بذلك وإنما قامت وزارة الرى والموارد المائية بتشكيل لجنة وطنية مصرية لدراسة سد النهضة تضم جميع التخصصات الفنية والقانونية والسياسية.. وذلك لتقديم الدعم والمشورة للفريق المصرى المشارك فى اللجنة الدولية الثلاثية. لكن كل ذلك لم يغير من الأمر شيئا.. فلم تقدم أثيوبيا أية دراسات تفصيلية للجنة الثلاثية ولم تستكمل الدراسات المطلوبة.. باختصار لم تتعاون مع اللجنة الثلاثية بالدرجة المطلوبة التى تتيح للجنة عمل تقرير سليم وواف. ماذا ننتظر بعد ذلك من تقرير يعتمد على دراسات تمهيدية ويفتقد إلى الدراسات التفصيلية؟! ومع ذلك جاءت نتائج التقرير كطلقات رصاص أطلقتها اللجنة الثلاثية على مستقبل مصر والسودان!. *** سمعنا الكثير من الآثار السلبية لسد النهضة الأثيوبى.. سواء فى تقرير اللجنة الثلاثية من خلال آراء الخبراء.. وأصبحنا جميعا نعرف أننا سنواجه نقصا حادا فى المياه، بالإضافة إلى توقف السد العالى عن إنتاج الكهرباء. من ناحيتها تنفى ذلك أثيوبيا وتحاول إقناعنا بأن السد لن يضر مصر ولن يحرمها من نصيبها من المياه.. لكن الحقيقة أنها لم تقدم لنا دليلا واحدا على صحة كلامها.. فلم تقدم دراسة واحدة فى هذا الموضوع.. وهذه مصيبة بكل المقاييس، لكن المصيبة الأكبر ليست فى حرمان مصر من المياه ولا نقص الكهرباء.. المصيبة الأكبر هى ما يمكن أن يحدث للسد نفسه.. سد النهضة الأثيوبى!. اسمع يا سيدى!.. يتحدث التقرير النهائى للجنة الثلاثية عن خطر محتمل وقائم اسمه انهيار السد.. السد الأثيوبى.. ويقول التقرير: إنه لا توجد أية دراسات عن احتمالات انهيار السد وهى إحدى الدراسات الأساسية التى يجب إتمامها قبل المشروع فى إنشاء أى سد.. والأخطر من ذلك - كما جاء فى التقرير النهائى - أن التصميمات الهندسية التى قدمها الجانب الأثيوبى لجسم السد تؤكد أن هناك عوامل كثيرة قد تؤثر بشكل كبير على أمان السد على المدى الطويل.. وهو ما يشير إلى زيادة احتمالات انهيار السد.. وفى هذه الحالة ستكون هناك تأثيرات كارثية على السودان بداية من انهيار كل السدود على النيل وارتفاع منسوب المياه فى الخرطوم بدرجة كبيرة قد تؤدى إلى تدمير العاصمة السودانية بالكامل. أما بالنسبة لمصر فسوف يؤدى انهيار السد الأثيوبى إلى كوارث من نوع آخر.. فسوف تضطر مصر إلى تصريف المياه الزائدة خلف السد العالى للحفاظ عليه من الانهيار وهو ما سيؤثر سلبيا على كل المنشآت المائية على النهر.. من أسوان وحتى الدلتا، بالإضافة إلى غرق مساحات كبيرة من الأراضى والمنشآت القريبة من جسور نهر النيل. أثيوبيا تبنى سدا احتمالات انهياره تساوى احتمالات بقائه.. ما هو المعنى؟! هل هى حرب تعلنها أثيوبيا على مصر؟.. هل هى مناورة سياسية هدفها الضغط على مصر؟.. ولصالح مَن هذا الضغط.. أثيوبيا نفسها أم إسرائيل؟!.. هل هى مؤامرة على مصر فى إطار مؤامرة كبرى تستهدف تدمير مصر وتقليم أظافرها تماما؟. *** ليس خافيًا أن المجتمع الدولى - لأسباب كثيرة- يقف إلى جانب أثيوبيا.. ومعنى ذلك أننا نخسر مقدمًا قضية التحكيم الدولى.. إذا وافقت أثيوبيا على التحكيم!.. وليس أمامنا بعد ذلك إلا الحرب أو التفاهم والاتفاق مع أثيوبيا.. وأظن أن الحرب مستحيلة. ماذا ننتظر لنبدأ التفاهم والاتفاق؟.