كأن دول المنبع على امتداد نهر النيل أصيبت فجأة بحمى بناء السدود !... فى أوغندا تم الاعلان عن بناء سد لإنتاج الكهرباء بقدرة 600 ميجاوات.. وفى تنزانيا تم الاعلان عن انشاء سد «دودوما» لإنتاج الكهرباء أيضا.. والمفاجأة أننا لا نملك أى معلومات عن حجم هذا السد ولا عن طاقته التخزينية وقدرته على إنتاج الكهرباء.. أما المفاجأة الأكبر فهى أن هذا السد دخل مراحل انشائه الأخيرة بالفعل.. وأنه سيكون جاهزا لإنارة ألف قرية ريفية قبل حلول نهاية العام! هل هناك علاقة بين بناء هذه السدود والاعلان عن بنائها وبين بناء سد النهضة الأثيوبى؟ هل جاء الاعلان عن بناء السدود الجديدة استجابة لدعوة أثيويبا لدول اتفاقية عنتيبى لإقامة مشاريع مائية مماثلة لسد النهضة لضمان استفادة أكبر من مياهه؟! هل معنى ذلك أن أثيوبيا تحث وتدعو وتشجع على الإضرار بمصر ؟! الحقيقة أنه لايمكن الاعتماد على التصريحات الرسمية للإجابة عن هذه التساؤلات. فكل التصريحات الرسمية الأثيوبية تسير فى اتجاه طمأنة مصر والتأكيد على أن حقها فى مياه النيل محفوظ وأن السد.. السد الأثيوبى.. لن يسبب ضررا لمصر ولا السودان.. وأنه من الأفضل أن يترك المصريون شكوكهم جانبا ويمدوا أيديهم للتعاون مع أثيوبيا. لكن الغريب والمثير للشك أن أثيوبيا كانت قد اتفقت مع مصر على تشكيل لجنة ثلاثية مكونة من خبراء من مصر والسودان وأثيوبيا لتقييم سد النهضة والتأكد من أن تصاميمه صحيحة ولن تؤدى للإضرار بدول المصب.. مصر والسودان.. وكان الاتفاق أن أثيوبيا لن تبدأ التنفيذ الفعلى لمشروع السد إلا بعد صدور تقرير اللجنة الثلاثية والتأكد من أن سد النهضة لن يصيب دول المصب بأى أضرار. كان ذلك هو الاتفاق وكان حسن النية يقتضى أن نثق فى الأثيوبيين ونصدقهم.. لكننا فوجئنا بأن أثيوبيا اعلنت عن البدء بالفعل فى تحويل مجرى النيل تمهيدا لبناء السد.. ثم فوجئنا بأن أثيوبيا انتهت بالفعل من بناء ما يقرب من 20% من جسم السد.. كل ذلك واللجنة الثلاثية نائمة فى العسل.. أو تم تنويمها فى العسل!.. فلم نسمع لها صوتا ولم نقرأ لها تقريرا.. وأخيرًا جاء الفرج! صدر التقرير الذى انتظرناه طويلا وقرأنا وسمعنا العجب.. وأدركنا أننا أمام كارثة فعلية.. كارثة لا ينفع معها أى تجميل أو تهوين! *** اول ما يلفت الانتباه إلى تقرير اللجنة الثلاثية أن الدراسات المقدمة من الحكومة الأثيوبية والتى تعتمد عليها اللجنة فى تقييم السد.. أول ما يلفت الانتباه أنها دراسات قديمة لا تصلح للاعتماد عليها.. أول القصيدة كفر كما يقولون. ثم إن هذه الدراسات تخلو من أى دراسة عن تأثير انهيار السد مع أن هذه الدراسات لازمة وضرورية من انشاء أى سد. والحقيقة أن مسألة انهيار سد النهضة الأثيوبى من المسائل التى يجب أن تسبب لنا القلق ... فرغم عدم وجود دراسة عن تأثير انهيار هذا السد إلا أن الخبراء المصريين يؤكدون أن انهيار سد النهضة يمكن أن يؤدى إلى اختفاء مدينة الخرطوم وغرق منطقة توشكى. وعلى الرغم من أن الدراسات الخاصة بالسد تتحدث عن أهمية وجود احتياطات إنشائية تسمح بتوفير الحد الأدنى من احتياجات دول المصب من المياه ... إلا أن التقرير أكد الدراسات لم توضح كيفية وجود هذه الاحتياطات الإنشائية ... كأن الدراسات تتحدث عن سراب. فى نفس الوقت لم تتضمن الدراسات أية معلومات عن ارتفاع السد والقدرة التصميمية لمحطة الكهرباء.. والغريب أن الجانب الأثيوبى برر ذلك بأن مثل هذه الأمور لا تخص إلا الحكومة الأثيوبية! ونصل إلى بيت القصيد فى التقرير.. حصة مصر من المياه.. فنجد أن التقرير يقول إن الدراسات الأثيوبية تشير إلى أن ملء السد فى فترات الفيضان العالية والمتوسطة سيكون له تأثير على الكهرباء المولدة من السد العالى فقط ولن يكون له تأثير على حصة مصر من المياه.. لكن فى حالة ملء الخزان فى فترات الجفاف فإن منسوب السد العالى سيصل إلى أقل منسوب تشغيل له لمدة أربع سنوات متتالية مما سيكون له تأثير بالغ على توفير المياه اللازمة للرى وعدم القدرة على توليد الكهرباء لفترات طويلة.. باختصار حصة مصر من المياه ستقل وإنتاج الكهرباء من السد العالى سيتوقف.. ماذا نريد أكثر من ذلك؟! وكما يشير التقرير فإن الأضرار التى ستلحق بمصر بسبب السد الأثيوبى لاتقتصر على نفس حصتها من المياه وتوقف السد العالى من إنتاج الكهرباء.. لكن الأضرار ستشمل أيضا تدهور الثروة السمكية لمصر نتيجة تدهور نوعية المياه بمنطقة بحيرة السد.. بسبب تحلل الزراعات الموجودة . ويتحدث التقرير عن بعض الإيجابيات فيقول إن السد الأثيوبى سيؤدى إلى تقليل ترسيبات الطمى الواردة لبحيرة السد العالى.. كما سيؤدى أيضا إلى زيادة المساحة الزراعية.. لكن الغريب والعجيب أن الخبراء يؤكدون أن لا يمكن الاعتماد على تلك النتائج لأنها مبنية على بيانات وطريقة تحليل غير محققة وتحتاج إلى مزيد من الدراسات المتعمقة.. حتى هذا الفتات القليل.. غير مضمون! مرة أخرى.. ماذا نريد أكثر من ذلك ؟! *** ليس سرا أن أثيوبيا استغلت ظروف مصر بعد ثورة يناير وبدأت تنفيذ خطة انشاء سد النهضة.. وليس سرا أن تقرير اللجنة الثلاثية بحمل الكثير من المخاطر لمصر والسودان.. وقد سمعت الدكتور علاء الظواهرى خبير السدود وعضو اللجنة الثلاثية لتقييم السد الأثيوبى يقول فى مداخلة تليفزيونية أن تقرير اللجنة الثلاثية بما يحتويه من أخطار لمصر يعتبر ورقة جيدة تجعلنا قادرين على مطالبة أثيوبيا والعالم أجمع بإيقاف بناء السد إلى حين استكمال الدراسات التى يطالب التقرير باستيفائها لضمان عدم تضرر دول المصب من بناء السد . فلماذا لا نفعل؟!.. وماذا ننتظر؟!.. *** إذا كنا نرفض دعاوى الحرب ونتمسك بعلاقات السلام والجيرة بيننا وبين جميع الدول الأفريقية وفى مقدمتها دول حوض النيل.. فليس معنى ذلك أن نتهاون فى حقوقنا ونتمسك بنظرية حسن النوايا التى يمكن أن تقودنا إلى كارثة! الأشخاص يفعلون ذلك.. لكن الدول لا تفعل !. الأشخاص يمكن أن يناموا فى العسل.. لكن الدول لاتنام!