عبر التاريخ العريق لمدينة القدس العربية - والذى يبلغ الآن ستين قرنا - اقتحمها عدد من الغزاة.. ولقد قام كل هؤلاء الغزاة باحتكار القدس إبان غزوهم لها وسيطرتهم عليها.. احتكرها العبرانيون فى القرن العاشر قبل الميلاد 415 عاما.. واحتكرها البابليون عندما غزوها، ودمروا الوجود اليهودى فيها بالسبى البابلى الشهير (597 - 538 ق.م).. واحتكرها الإغريق والرومان لمدة عشرة قرون - سواء فى عصر وثنيتهم أو فى عصر نصرانيتهم - قبل ظهور الإسلام.. أما فى التاريخ العربى لهذه المدينة المقدسة فإن قدسيتها وبركتها كانت مشاعة بين العالمين.. ولقد تكررت هذه الظاهرة بعد ظهور الإسلام.. فالتحرير الإسلامى للقدس سنة 15ه سنة 636م قد حرر القدس من الاحتكار الرومانى، وأشاع قدسيتها بين جميع أصحاب المقدسات، وذلك انطلاقا من تفرد الإسلام بالاعتراف بكل الآخرين، وجعله حماية كل المقدسات لكل الديانات فريضة إسلامية واجبة على المسلمين (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )(40)الحج: 40.. فالمسلمون هم الذين أطلقوا على هذه المدينة المقدسة اسم: «القدس» و «القدس الشريف» والحرم القدسى الشريف.. وأضفوا القداسة والحماية على مقدسات النصارى فيها.. وأعادوا إليها اليهود - الذين كانوا مطرودين منها وممنوعين من سكنها إبان العصر الرومانى.. وهم الذين أعادوا الطهر والطهارة إلى الأماكن التى سبق وعُبد الله فيها بعد أن دنسها الرومان.. لقد ظلت القدس العربية الإسلامية حرما آمنا مفتوحة أبوابه أمام كل أصحاب المقدسات، من كل الديانات، حتى غزاها الصليبيون واحتلوها قرابة التسعين عاما (492 - 583ه 1099 - 1187م) فاحتكروها لأنفسهم، وذلك بعد أن أبادوا الوجود الإسلامى والوجود اليهودى فيها، وحّولوا المسجد الأقصى إلى كنيس لاتينى، ومخزن سلاح واصطبل للخيول!.. وعندما حرر صلاح الدين الأيوبى القدس من الاحتلال والاحتكار الصليبى (583ه 1187م) فتح أبوابها وأشاع قداستها بين جميع أصحاب المقدسات من جديد. وها هى القصة تتكرر بعد الغزو الصهيونى للقدس فى 7 يونيو سنة 1967م.. لقد فرضوا عليها القانون الصهيونى ونظم الإدارة والقضاء - حتى على القضاء الشرعى الإسلامى!- وعلقوا على أبوابها «تميمة الباب» اليهودية (ميزوزاق) باعتبارها «بيت اليهود» وحدهم دون الآخرين!.. كذلك شهد هذا التاريخ العريق لمدينة القدس العربية ظاهرة تكررت عبر هذا التاريخ.. فكل الغزاة قد سفكوا فيها الدماء عند غزوهم لها.. صنع ذلك العبرانيون فى القرن العاشر قبل الميلاد.. والبابليون فى القرن السادس قبل الميلاد..والإغريق فى القرن الرابع قبل الميلاد.. والصليبيون فى القرن الحادى عشر الميلادى.. والإنجليز سنة 1917م.. والصهاينة سنة 1967م.. وحدهم هم المسلمون الذين عاملوا القدس معاملة الحرم الذى لا يجوز فيه القتال ولا سفك الدماء.. صنعوا ذلك عندما حرروها من القهر الرومانى سنة 15ه سنة 636م.. وعندما حررها صلاح الدين الأيوبى من الصليبيين.. ذلك لأن الحرم- القدس.. ومكة.. والمدينة - هى بيت الله، الذى وضع للعبادة، وليس لسفك الدماء؟