أشرنا الأسبوع الماضى إلى تعلق كل من قيس بن الملوح وليلى العامرية ببعضهما البعض واعترافهما بالحب المتبادل وأنه كان يصطنع الأسباب لرؤياها.. حتى إن أباها اتهمه أنه جاء ليشعل البيت نارا.. وليس ليطلب نارا! وقد كان ذلك من خلال أبيات المسرحية الشعرية «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقى.. والتى لم تختلف وقائعها عما جرى بالفعل. فقد روت الكتب أن قيس كان يمر بحى ليلى وهو راكب ناقة له، وعندما رآها تجلس مع بعض النسوة نزل وجلس معهن وأخذ يحادثهن وعينه معلقة بليلى التى حاولت التغطية على ما يحدث فأمسكت معه اللحم وهو يقطعه، ففوجئت به يقطع كفه بالسكين وهو شاخص فيها.. وعندما وضع اللحم على النار.. فوجئت به أيضا يمد يده إلى الجمر ويقلب به اللحم.. فاحترقت دون أن يشعر! وفى ليلة أخرى.. جاءهم ضيوف.. فأرسله أبوه إلى خيام عمه ليطلب منه آدم (غموس) فطلب الأخير من ابنته أن تحضر (حق السمن) وتملأ لقيس منه إناء.. فجعلت تصب السمن وهما يتحادثان..حتى سال السمن من الإناء.. ونزل على أقدامهما وهم لا يدريان. ويحكى قيس أنه أتاهم فى ليلة أخرى يطلب نارا وهو متلفح ببرد (ثوب) فأعطته ليلى النار فى خرقه.. ووقفا يتحدثان، «فلما احترقت الخرقة قطعت من ثوبى خرقة أخرى ووضعت بها النار، وكلما احترقت خرقة قطعت أخرى.. حتى لم يبق علىّ من الثوب إلا ما ستر عورتى»! هكذا كان حاله.. لا يرى غير ليلى.. ولا يسمع لغير صوتها وعندما سئل ما الذى أعجبك منها؟.. أجاب: كل شىء.. رأيته وسمعته منها أعجبنى.. والله ما رأيت شيئا منها قط إلا كان فى عينى حسنا.. وطلب منه وصفها فقال: بيضاء خالصة البياض كأنها قمر توسط جنج ليل مُبْرد موسومة بالحسن ذات حواسد إن الجمال مظنة للحسد ولم يكن الأمر بينهما يخلو من الهجر والممانعة.. وهو ما كان يزيد العشق بينهما اشتعالا.. فقد تصادف أن وجدها تحادث فتى بالحى يسمى منازل.. وكان قيس يعتبره غريمه فى حب ليلى.. فجزع وغضب غضبا شديدا وهَمّ بالانصراف حزينا.. إلا أن ليلى لحقت به تسترضيه وهى تقول: كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكين تبلّغنا العيون مقالتينا وفى القلب ثم هوى دفين وأسرار الملاحظ ليس تخفى إذا نطقت بما تخفى العيون نعم يا ليلى.. فالصب تفضحه عيونه.. ودلائل الحب لا تخفى على أحد.. ولكن قيس بدأ يشعر بالتشاؤم.. والقلق خاصة بعد أن أحس أنه لم يعد مرحبا به عند أهلها.. ولذلك انصرف.. وهو يقول: أظن هواها تاركى بمضلة من الأرض لا مال لدى ولا أهل ولا أحد أفضى إليه وصيتى ولا صاحب إلا المطية والرحل محا حبها حب الآلى كُن قبلها وحلت مكا لنا لم يكن حُلّ من قبلْ وزاد من وجيعته أيضا رد فعل أهلها على ما يسمى «بالتشبيب» وهو انتشار الشعر الذى كان يقوله قيس فى ليلى بين الناس.. وهى عادة كانت العرب ترفضها تماما.. خاصة بعدما انحازت ليلى لموقف أهلها وترفض مقابلته.. وهو ما دفع قيس لأن يقول: وما كشكرى شكر لو يوافقنى ولا مناى سوى لو يُواتينى أطعته وعصيت الناس كلهم فى أمره وهواه وهو يعصينى وعندما طالت القطيعة بينهما.. أرسل لها رسولا وطلب منه أن يقف بالقرب من خيمتها حيث تسمعه.. ويقول: الله يعلم أن النفس هالكة باليأس منك ولكنى أعزَّيها منتيك النفس حتى قد أضربها واستيقنت خلفا مما أمنيها وساعة منك ألهوها وإن قصرت أشهى إلىّ من الدنيا وما قيمها وعندما سمعت ليلى تلك الأبيات.. بكت بكاء شديدا.. وطلبت من الرسول أن يبلغه السلام ويقول له: نفسى فداؤك لو نفسى ملكت إذن ما كان غيرك يجزيها ويرضيها صبرا على ما قضاء الله فيك على مرارة فى اصطبارى عنك أخفيها وعندما أبلغ الرسول قيس بما قالته ليلى سقط مغشيا عليه! ومع مرور الأيام لاحظت أمه تركه للطعام والشراب.. فأشفقت عليه وأرسلت لليلى ترجوها زيارته.. لعله يعود عما هو فيه ويتوب إلى رشده. وجاءته ليلى فعلا وقالت له إن أمك تزعم أنك جننت من أجلى.. فاتق الله وأبق على نفسك فأخذ يبكى ويقول: قالت جننت على رأسى فقلت لها الحب أعظم مما بالمجانين الحب ليس يفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون فى الحين واستمر قيس على حاله.. حتىقال قوم لأبيه: لعل الجن قد أصابه فكان يأتيه بالتعاويذ ويرقيه ويرش عليه الماء لعل الجن تنصرف عنه.. ولكن قيس كان يعلم بدائه.. وكان يقول: وجاءوا إليه بالتعاويذ والرقى وصبوا عليه الماء من ألم النكس وقالوا به من أعين الجن نظرة ولو عقلوا قالوا به أعين الإنس أو كما قال أمير الشعراء: وإن عجز الطبيب قال داء من الجن ليس له دواء مسكين يا قيس لقد كنت فتىّ نبهّ الشعر قدره حرموك من ليلى.. ورفض أبوها زواجها منك وأهدر الحاكم دمك إنك أنت القائل: أحب من الأسماء ما وافق اسمها أو أشبهه أو كان منه مدانيا وإلى الأسبوع القادم..إن شاء الله