دعونا نعترف بأن هذا التحقيق ليس جديدًا على الصحافة المصرية لكنه أيضًا مواكب تمامًا لما يحدث. فموجة العنف الأسرى التى حذرت منها الصحافة والإعلام لسنوات عديدة مضت مازالت مستمرة، منا أن الجديد فيها أنها تتفاقم وتزيد وتتحول لتضرب مؤسسة الأسرةومفاهيم الترابط فى الصميم وليس هناك وصف مناسب لهذه الجرائم والأفعال إلا أن الأسرة المصرية تنتحر، فالسكين الذى يقتل به الابن أو الأب أو الأم والزوج الذى يذبح زوجته ويسلخها ويبيع لحمها فى محل جزارته للزبائن.. هؤلاء هم تمامًا مثل اليد التى تسدد السكين لجسدها لتنتحر.منذ أيام وقعت جريمة بشعة ارتكبها الابن الذى انهال طعنًا على والديه ومثل بجثتيهما عضبًا منهما عندما نصحاه بالتخلى عن الادمان والسرقة فقرر التخلص منهما حيث غافل والده وانهال عليه طعنًا بالسكين حتى فارق الحياة ثم اتجه لوالدته ولم يلتفت لتوسلاتها وسدد إليها الطعنات ثم قام بسحب جسدها إلى الحمام وفصل رأسها عن جسدها.. ولم تمر أيام قليلة حتى وقعت جريمة أسرية أخرى أكثر إيلامًا بشاعة عندما تحول الزوج إلى وحش كاسر لم يتحمل عتاب زوجته له.. واشتدت المناقشة بينهما وتبادلا الألفاظ النابية وتطاولت عليه زوجته فصفعته على وجهه فثار الزوج وأسرع إلى المطبخ وأحضر السكين وطارد زوجته داخل الشقة وطعنها عدة طعنات إحداها فى بطنها لتغطى الدماء أرضية المكان.. وبعد لحظات من الذهول أفاق الزوج (المتهم) من صدمته وفكر فى كيفية التخلص من الجثة وأمسك بالسكين وشطر جسد زوجته وأحضر أكياسًا كبيرة من البلاستيك وقام بتجريدها من ملابسها وقطع جسدها إلى أجزاء ووضعها داخل أكياس.. وفى الثالثة من صباح اليوم التالى حمل الأكياس داخل سيارته حتى منطقة العبور ووسط بعض الكثبان الرملية ألقى بأحد الأكياس وسار بالسيارة حتى وجد «بيارة صرف صحى» وألقى فيه بالكيسين الباقيين.. كل هذا حدث ولم يكن قد مضى على زواجهما إلا حوالى 100 يوم. كما شهدت قرية «الميمون» بالواسطى ببنى سويف حلقة جديدة من مسلسل جرائم الأسرة.. ذبح العامل سيد والده المزارع محمد عبد الحميد وفصل رأسه عن جسده أثناء قيام الأب بأداء الصلاة فى مسجد القرية.. تبين أن القاتل كان مسافرًا لليبيا وأرسل مدخراته التى أنفقها الوالد على زواج ابنه الآخر! دوافع خاصة وعن التحليل العلمى لهذه الظاهرة تؤكد د.عزة كريم أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن معظم جرائم القتل والعنف التى تحدث فى إطار الأسرة يغلب عليها أسباب ودوافع خاصة بعدم الحرص على كرامة الآخر وعدم توافر عناصر المودة والرحمة إلى جانب ضغوط الحياة اليومية سواء من حيث الزحام وعدم توافر القدرة المالية لتغطية احتياجات الأسرة إلى جانب عدم توافر القدر المناسب من التعليم والثقافة الدينية اللازمة لتفادى حدوث أى نزاعات داخل الأسرة الواحدة فعندما يحدث خلاف فى أسرة يمكن مواجهته بالحوار الهادىء الذى يعرض وجهة النظر ووجهة النظر الأخرى من أفراد الأسرة الواحدة سواء كانوا زوجين أو أبناء أو أشقاء مع بعضهم البعض أو أفراد الأسرة الواحدة عمومتهم أو أخوالهم بسبب خلافات أخرى خاصة بحقوق مالية أو تمس الكرامة. وتضيف د. عزة - أن المجتمع يمر بحالة تغيير فى أسلوب المعيشة اليومية واحتياجاتها فقد صارت التطلعات الحياتية أكبر من قدراتنا.. وهذا قد يدفع البعض من قليلى الحيلة إلى العنف مع الآخرين للحصول على مكاسب ليست من حقهم.. فى حين أنه يمكننا لتحقيق ما نتمناه أن نزيد من جهودنا فى العمل وندقق فيه بحيث نكون مطلوبين.. فأى فرد ناجح فى عمله يطلبه الكثير من الجهات، وبالتالى يزيد دخله ورزقه إلى جانب ذلك فمن الممكن أن يحصل الإنسان على احتياجاته من خلال أفراد أسرته بمساعدة بعضهم البعض بالاتفاق وليس بالنزاع.. مشيرة إلى أن الوضع المجتمعى فى شكله الحالى سيؤدى إلى تصدع الكثير من الأسر التى لا تعرف السبيل القويم لعلاج المشكلات والخلافات الأسرية داخل الأسرة الواحدة بحوار متعمق ومتزن والرجوع لكبار الأسرة والعائلة والعمل بنصحهم وإرشادهم وهذا يصب فى مصلحة الأسرة. الأسباب الخمسة ومن جانبها ترى د. فادية أبو شهبة أستاذ القانون الجنائى بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن العنف الأسرى الذى نراه فى الفترة الأخيرة يرجع إلى 5 أسباب.. الأول الخلل فى البناء للأسرة من البداية فهى كثيرًا لا تقوم على المودة والرحمة اللتين تعتبران قوام الأسرة الصالحة وإنما يتم اختيار الزوج على أساس قدرته المالية وليس على أساس التكافؤ وخلقه ودينه، كذلك اختيار الزوجة لا يتم على هذا الأساس والسبب الثانى الجهل بالحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين وهذا يقتضى تربية أسرية لتعميق مفاهيم الأسرة وقد سيتها بين الشباب منذ الصغر، والسبب الثالث ضعف الوازع الدينى والسبب الرابع نقص التوعية بأهمية احترام حقوق الغير لاسيما أفراد الأسرة الواحدة بل على العكس نجد كثيرًا ما تشتمل المسلسلات التليفزيونية على خلافات أسرية وكراهية متبادلة وشقاق وخلاف بين الأزواج أو بينهم وبين أفراد أسرهم.. والسبب الخامس نشر الجرائم «بحذافيرها» يجعلها نموذجًا أمام المنحرفين لتقليد الجريمة والدليل على ذلك أن الزوج الذى قطع زوجته نصفين كررتها الممرضة التى قتلت زوجها بعد فترة قصيرة وبنفس الأسلوب! العنف الأسرى والثورة ومن جانبها تؤكد د. سامية خضر أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس أن العنف الأسرى ليس وليد اليوم ولكنه موجود داخل الأسر خلال ال 15 سنة الأخيرة على وجه التحديد». وقد زادت معدلاته بعد ثورة 25 يناير بسبب انعدام القيم داخل المجتمع وغياب التسامح بين المصريين بشكل ملحوظ.. موضحة بأنه أصبح هناك شعور - بعد الثورة - أن كل فرد يعمل ما يريده. ولقد ساعد على ذلك - كما تقول د. سامية - ضعف وغياب الوازع الدينى رغم أن الإسلام دين يقوم على التسامح والإيمان واحترام الكبير هذه القيم أصبحنا نأخذها بشكل سطحى.. وهذا فى منتهى الخطورة! وتوضح د. سامية أن العنف لم يولد به الإنسان ولكن يكتسبه فى إطار مجتمعى وبيئى.. فاذا نظرنا للمجتمع والبيئة التى نعيش فيها بعد الثورة مليئة بأشكال العنف والقتل والضرب وترويع المواطنين فى كل مكان داخل البيت والمدرسة والجامعة والنادى.. مؤكدة أن العنف داخل الأسرة لا يمكن أن نفصله عن العنف داخل المجتمع.. والنشىء تتأثر بما يشاهدونه من مسلسلات وأفلام العنف مشبهة العنف «بالعجينة» المكونة من الدقيق والسكر والماء هذه الخلطة لا يمكن فصل مكوناتها عن بعض بعد أن أصبحت «عجينة».. مشيرة إلى أن تكثيف جرائم العنف المتعددة فى الأفلام والمسلسلات يجعل الجريمة سهلة لدى المتلقى مما يجعله يعتاد عليها. كما تؤكد د. سامية - أن العنف يأتى من عدم الشعور بالأمان لأن الأمان يعطى الشعور النفسى بالتسامح.. والأب والأم والجيران كل له دوره.. كاشفة لقد زادت مشاهد العنف بعد الثورة لغياب العقلانية.. مناشدة الآباء بالتفكير والتعقل أمام كل الأمور. غياب الأب ومن جانبه يرى د. سيد صبحى أستاذ الصحة النفسية أن كل ما يحدث لا يمكن أن نطلق عليه عنفا أسريا ولكن يمكن أن يقال بأن شبكة العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة قد تهالكت. ويتساءل د. سيد - ما الذى أدى إلى هذا التهالك؟ ويجيب عن تساؤله قائلًا: البعض يرى أن سببه غياب الأب وتركه الأمور للأم ( الزوجة) فى إدارة المنزل ورعاية الأولاد.. ومن هنا بدأت تتوتر العلاقات داخل الأسرة بعد أن كانت «الحضن الاجتماعى الدافىء». ويضيف د. سيد لقد هدد هذا الحضن الاجتماعى الدافىء البعد الاقتصادى والتعليمى الذى أصبح مكلفا مما كان له الأثر فى توتر العلاقة بين الآباء وأولادهم لكثرة المطالب والضغوط..مؤكدًا على ضرورة إعادة الوئام داخل الأسرة. ويضيف د. سيد أن بعض الأسر تقوم بأعمال إضافية حتى تستطيع تغطية المطالب المستمرة لأبنائها.. وقد يؤدى هذا الأمر إلى أن يشعر الأب بالتوتر والاجهاد مما يؤثر على الجهاز العصبى ويجعله عرضة الانفعال. ويرى د. سيد صبحى أستاذ الصحة النفسية أن الصراع بين الأب وأسرته ينشأ نتيجة لمجموعة من العوامل.. العامل الأول مطالب الأولاد والعامل الثانى التطور الذى يعيشه المجتمع من ملابس على أحدث خطوط الموضة وغيرها مما يجعل للأبناء تطلعات أكثر من قدرات وإمكانيات الآباء. ويؤكد د. سيد أن ما يحدث داخل الأسرة هو نتاج للمناخ العام الذى أدى إلى التوتر والاضطرابات النفسية وعلّم الأبناء كيف يتعلمون المزاج المضطرب فنجدهم يستخدمون الألفاظ العجيبة ونجد بعضهم لا يهتم بكبار السن الأمر الذى أدى إلى خروجهم عن السائر المألوف لتصبح الأسرة فى ضياع وصراع الذى سببه البعد الاقتصادى الضاغط فى المقام الأول. وينصح الآباء بتعليم أولادهم كيف يتعاملون مع بعضهم البعض وأيضًا كيف يتعاملون مع الأب والأم ليعرفوا أن الأم هى مصدر الرعاية والحنان لهم.. وأن الأب يعمل من أجلهم.. وأنه على الذين يتولون شئون المجتمع أن يضعوا فى اعتبارهم هم الآخرين أن الخدمات التى يقدمونها للمجتمع تكون موجهة للأسرة لتعود الأسرة المصرية إلى سابق عهدها وكما كانت عليه فى الماضى مربية للأبناء. ويوضح د. سيد أن المناخ الثورى الذى نعيشه ساعد على المزيد من العنف داخل الأسرة المصرية لأنه مناخ مضطرب وتغلب عليه مطالبهم وهى مطالب تحقق مصالحهم الخاصة ولا تتلاءم مع مصالح المجتمع.. مؤكدًا أنه لكى يعود الانسجام الاجتماعى للأسرة المصرية فلابد أن تقدم الحكومة خدماتها للأسر مثل الدعم للمطالب الغذائية والتعليم والصحة لتفرز لنا أفرادا ينعمون بالتوافق النفسى والاستقرار الاجتماعى.. فلابد أن يكون التفكير منصبا على التخطيط لاستقرار الأسرة لأنه إذا صلحت الأسرة صلح المجتمع كله. الصعيد أقل عنفًا! وفى نفس السياق تؤكد د. إيمان الشريف أستاذ علم النفس الجنائى بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن العنف الأسرى ينتشر بكثرة فى المناطق الحضرية ويتقلص فى الأرياف خاصة فى الوجه القبلى (الصعيد) وذلك بسبب اختلاف نظام الزواج فى الحضر عنه فى الريف حيث يغلب فى الحضر فى كثير من الأحيان أن يكون دون تكافؤ ما بين الزوجين فى المستوى المادى والتعليمى والاجتماعى والثقافى وما يؤدى خصوصًا عند الرجل إلى الشعور بعدم المساواة مع الزوجة، وبالتالى يحدث نوع من الكبت الداخلى للاحساس والشعور بالنقص ويترجم ذلك فى عدة مشاهد عنيفة من الرجل تجاه الزوجة تبدأ بالألفاظ وتصل إلى حد العنف السلوكى بالمعاملة السيئة والاهانات وغياب الود، وبالتالى يكون رد فعل الزوجة مبادلته التصرفات والاهانات ذاتها لتصل الأمور إلى العنف البدنى والضرب الذى قد يتطور إلى القتل! وتؤكد د. إيمان أن عدم وجود إحصائيات للعنف الأسرى ونسبته فى المجتمع يرجع لصعوبة حصرها لأنها لا تمثل الأرقام الحقيقية للأسرة لأن غالبية المشاكل لا يتم الإعلان عنها بل تفضل الأسرة التغطية عليها. وتؤكد د. إيمان أنه لحل مشكلة العنف الأسرى يجب القيام بتنشئة جيل جديد يعرف كيفية التعامل مع الآخر باحترام وليس بعنف.. وتطبيق القانون على الجميع بعدالة وسرعة التقاضى وتحقيق العدالة حتى نقضى على ظاهرة الحصول على الحقوق بالأيدى. غياب الحوار ولكن هل للإعلام يد فى ازدياد العنف الأسرى بهذا الشكل الذى نشاهده فى الآونة الأخيرة؟ يقول د. عدلى رضا أستاذ الإذاعة والتليفزيون بإعلام القاهرة إنه يجب ألا نحمل الإعلام فوق طاقته ولكن يمكن القول بأن جزءا من الإعلام تقع على عاتقه المسئولية فى هذا العنف الأسرى بما يضمنه من أفلام ومسلسلات تحتوى على مشاهد العنف وتعظمه.. ويحدد د. عدلى الأسباب لزيادة العنف الأسرى قائلًا إن السبب الرئيسى هو غياب التربية وعدم وجود الحوار بين الآباء والأبناء.. والسبب الثانى ازدياد التطلعات والطموحات لدى الكثيرين فى ظل القدرات والإمكانيات المحدودة التى لا تلبيها.. فأصبح الأبناء ينظرون للأب على أنه مصدر للمال وليس الدعاية والتنشئة.. مؤكدًا على أن طغيان المفاهيم المادية على الحياة أدى إلى أن الشخصية المصرية أصبحت غير متوازنة وأصبح كل همها هو جمع المال وفى المقابل أصبح الكثيرون ساخطين على أحوالهم.