أوقد فإن الليل قر والريح يا غلام ريح صر علَّ يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر هكذا كان شاعرنا حاتم الطائى ينادى على غلامه كل ليلة.. ولِمَ لا.. وقد كان من أجود العرب ومن أفحل شعرائها..فهو من قبيلة طيئ.. والتى وصفت بقبيلة الشعر والفروسية والجود.. ولم يكن شاعرنا كريما فقط.. بل كان فارسا..إذا قاتل غلب.. وإذا غنم نهب.. وإذا استل وهب.. وإذا أسر أطلق. إنه حاتم بن عبد الله الطائى الذى أصبح يضرب به المثل فى المروءة والكرم.. وحتى عصرنا هذا.. حتى إننا نقول إن فلانا صاحب «كرم حاتمى».. كناية عن حسن استقباله لضيوفه.. والمبالغة فى واجبات الضيافة. لقد حاول والده أن ينصحه قبل سفره للتجارة وبعد أن استخلفه على ماله وإبله وعشريته.. قائلا له: (لا تكن أخرق اليد مبسوط الكف حتى لا يعضك الفقر بنابه.. فالفقر مذلة والسؤال مهانة، ولا تكن شح اليد بخيلا كنودا فيلحقك سوء الذم.. وكن بين هذا وذاك.. تحفظ مالى وتستر غيبتى). ولكن حاتما كره حرص أبيه.. وورث عن أمه كرمها، وعشقها للعطاء.. فقد عضها الجوع ذات مرة.. فأقسمت ألا تقبض يدها فى وجه أحد.. وكانت تردد الشعر قائلا: لعَمّرك قد ما عضنى الجوع عضة فأليت ألا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائم اليوم أعفنى وإن أنت لم تفعل فعُض الأصابعا ولذلك.. ما إن غادر والده الديار.. سارع حاتم بالنداء على غلامه.. أن للريح صفيرا وللبرد أنيابا، فاشعل نارا كبرى أجعلها أكبر من جفنة عبد الله بن جدعان- وكان ممن اشتهروا بالكرم فى الجاهلية- التى كان يأكل منها القائم والراكب على البعير والتى سقط فيه ابنه.. فغرق فى بحر من مرق وثريد.. ونحن ليس لدينا ابناء.. فليقع فيها إذن من الإبل والغنم ما يملأ بطون الجائعين والضيوف.. وليهتدى بها كل من ضل الطريق فى هذا الليل البهيم. واستمر شاعرنا فى إقامة الموائد العامرة كل ليلة.. حتى تغنى الناس باسمه وسيرته.. كما تحولت الإبل والقطعان التى تركها له أبوه إلى رماد فى النار.. وطعام فى البطون.. وعندما عاد والده من السفر فوجئ بما حدث.. فاتهمه بالحمق وضياع المال وتبديد الثروة.. فأمره بالرحيل عنه.. ومغادرة الديار. ورحل حاتم مقهورا لفراق أهله وهو يردد: غنَينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلتاهما يُسقى بكأسيهما الدهرُ فما زادنا بُغضا على ذى قرابة غنانا.. ولا أزرى بأحلامنا الفقرُ ولكنه أخذ يطوف بالبلاد.. وسرعان ما حالفه الحظ فى التجارة وأقبل عليه الثراء والمال.. فعاد لقبيلته بقافلة كبيرة محلمة بالكثير ثم تقدم لماوية بنت عبد الله وكانت من أشراف قبيلة تميم فخطبها وتزوجها.. وكان يردد على مسامعها: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ويا ابنة ذى البردين والفرس والورد إذا ما عملت الزاد فالتمسى له أكيلا.. فإنى غير آكله وحدى واستمر حاتم فى كرمه.. ينفق ماله ويبدد ثروته.. يؤثر الآخرين على زوجه وبنيه.. حتى إنه أجار فارس البرامجة وشريفها عبد قيس بما كان لديه من إبل وقطعان.. مما اضطره فيما بعد أن يذبح جواده.. وهو ما تبقى له.. ليطعم بعض من لجأوا إليه بعد أن أهلكهم الجوع.. حتى اضطرت زوجته لمعاتبته على ذلك، فلديه أبناء أصبحوا لا يجدون قوت يومهم.. فرد عليها قائلا: وقائلة.. أهلكت بالجوع مالنا ونفسك.. حتى ضر نفسك جودها فقلت دعينى إنما تلك عادتى لكل كريم عادة يستعيدها كما كان يردد أيضا: وعازلة قامت علىّ تلومنى كأنى إذا أعطيت مالا أضُيمها أعاذل إن الجود ليس بمهلكى ولا مخلد النفس الشحيحة لؤمها ولم يتوقف حاتم عن عاداته حتى إن التقى أحد الأشخاص فى سفر له.. فعرفه.. فناداه «إنى أكلنى الإسار والقمل وأهلكنى الاغتراب عن الأهل.. فأغثنى يا أبا عدى».. فرد عليه حاتم «لقد عرفتنى وليس معى ما أفك به أسرك.. غير نفسى.. فاشتراه من أسريه وقيدوه بدلا منه.. وأرسل غلامه لزوجته لتفتديه بمائة من الإبل.. وعندما علمت زوجته بما حدث غضبت وقالت: كيف يفك عثرات الناس ويقتلنى كمدا وفقرا.. خذ الإبل.. وإذا عاد لأطلقنه.. فلا حياة لى معه بعد اليوم.. ثم قامت بتحويل باب الخيمة من الشرق إلى الغرب.. دليلا على جدية ما انتوته.. ولكنها اكتشفت بعد حين أنها لا يمكن أن تبتعد عنه.. فعادت اليه.. وتحملت معه نتائج عاداته.. فخلدها حاتم بشعره.. وبذريته.. من بعده: أماوى لا يغنى الثراء عن الغنى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدرُ أماوى إن يصبح صداى بقفرة من الأرض لا ماء لدى ولا خمرُ ترى أن ما أنفقت لم يك ضرنى وأن يدى مما بخلت به صفرُ