عاصمة الغناء العربى

فى نهاية كل عام تمطرنا أجهزة الإعلام باستقصاءات للرأى عن الأحسن فى التخصصات المختلفة، وكثيرا ما تخضع نتائجها للمجاملات البريئة وغير البريئة ومعظها لا يخضع للأساليب العلمية. فقط تعتمد على رأى جمهور قليل من المتابعين لبرامج المنوعات من عينة «توب 10» و «توب 20» وغيرهما، وتنتشر الصحف نتيجة استفتاءات تجريها على بائعى اسطوانات وكاسيتات الغناء لا تعبر إلا عن مبيعاتهم للأحياء التى تقع فيها متاجرهم، أما الجوائز التى يسعى إليها شباب المغنيين فلكل واحدة منها ثمن يدفع. وكنا زمان نحسب نجاح الأغنية بعدد الرسائل التى تطلب سماعها من برنامج «ما يطلبه المستمعون»بالإذاعة والآن تختار مقدمة البرنامج الأغانى نيابة عن المستمعين، وبعد انتشار الشبكة العنكبويته، أصبح الاعتماد عليها بدرجة كبيرة فى قياس الرأى العام وتحديد مدى الإقبال على أغنية ما ودرجة شعبية مطرب، وتصدر مؤسسة الفكر العربى تقريرا كل عام ترصد فيه واقع التنمية الثقافية فى البلاد العربية متمثلا فى التعليم والبحث العلمى وحركة التأليف والنشر والإبداع، إضافة إلى توثيق سنوى للحصاد الثقافى والفكرى لما يشغل العرب من قضايا وتساؤلات فى مؤتمراتهم وملتقياتهم وإعلامهم، وقد أشار هذا التقرير فى عامه الثالث إلى أن عمليات البحث باللغة العربية عبر الإنترنت والتى استهدفت التواصل مع الغناء بلغت 48 مليونا و384 ألفا فى عام واحد.من بين استهلاك معلومات أو أغان، وجاءت أغانى أم كلثوم فى المركز الأول بمتوسط عمليات وصل إلى 18098 عملية، ويجب ألا ننسى أن التعامل مع الشبكة العنكبويته سلوك شبابى إلى حد كبير ولا يسعى إليها من الكبار إلا من اضطرته ظروفه أو طموحاته إلى ذلك وهم لا يمثلون نسبة عددية كبيرة إذا اتفقنا على ذلك يكون المفترض أن تحتل المركز الأول أغنيات مطربات شباب أنغام أو إليسا أو أصالة أو شيرين، أو نانسى عجرم التى جاءت عمليات التعامل مع أغنياتها بواقع 192000 عملية، وعلينا أن نقارن هذا الرقم برقم عمليات التعامل مع أغنيات أم كلثوم ولا ننسى أيضا أننانتهم الشباب الآن بعدم الاهتمام بالغناء الكلاسيكى أو الجاد. ولكن هذا الإقبال الكبير على أغنيات أم كلثوم يؤكد أننا نظلمه فهو يتعامل مع هذا الغناء أكثر من تعامله مع أغانى الشباب الذى يفتقد فى معظمه الكلمه الراقيه واللحن الجميل والأداء المتمكن، وتأكيدا لهذا المعنى فإن الأغنيات التى تلى المركز الأول فى التعامل مع شبكة الإنترانت هى أغنيات شادية وورده ونجاة وهى أغنيات كلاسيكية أيضاً. أما أكثر أغنيات الشباب جاذبية فهى أغنيات المطربة المغربية جنات وهى أقرب إلى الكلاسيكية.
مازالت أم كلثوم هى عاصمة الغناء العربى وأغانيها الأكثر بقاءً وتأثيراً فى الأجيال المتعاقبة. وأنها رائدة من رواد التنوير المصرى والعربى، وترى الدكتورة نعمات فؤاد أن أم كلثوم كانت بنت بيئتها، وأنها الاستمرار المتجدد وأنها اختلطت بالأرض وصنعت تاريخها وعبرت عن تاريخ أمتها، ولذلك ظلت بلا منافس رغم كثرة صاحبات الصوت حولها. فقد وهبها الله صوتا قادرا، إحساسه عميق، له قدرة كبيرة على التلوين والارتجال بغير حدود، ونطقها نموذجى من أثر القرآن الكريم وأداء التواشيح الدينية مع والدها مما ضمن لها سلامة المخارج وإتقان علم سلامة الحروف.
أما الدكتور طه حسين فقال: أم كلثوم بصوتها النادر فى امتيازه سواء فى الجمال أو فى جودة نطق اللغة العربية ساعدها عندما غنت القصيدة فى إثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى فى أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، وكان لصوتها فضل جريان الشعر العربى على ألسنة العامة والخاصة.
ولعل أستاذنا الدكتور طة حسين كان يقصد «بالعامة» كل من استمع إلى قصائد أم كلثوم وردد مقاطعها، ولا تنمحى من ذاكرتى منظر عامل فى فرن على دراجته يقودها بيد واحدة والثانية يحمل عليها مسطحا من جريد فوقه عشرات الأرغفة من الخبز ويغنى «مانيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا».
وعن أم كلثوم قال الأديب الكبير توفيق الحكيم «كانت تؤدى كل قصيده وكل أغنية وكل لحن الأداء الكامل.
مازالت أم كلثوم مطربة العرب الأولى ونحن نحتفل هذا الأسبوع بمرور 114 سنة على ميلادها وبعد خمسة أسابيع (3 فبراير) ب 37 سنة على رحيلها. إن مطربات العرب منذ العصر الجاهلى إلى زمن أم كلثوم يحصى عددهن بالآلاف أعظمهمن عاصمة الغناء العربى أم كلثوم.