ما معنى أن تخلو نشرات أخبار ال «سى إن إن» وقناة الجزيرة وباقى الفضائيات العربية وحتى نشراتنا المحلية من أخبار تلك الانتفاضات الشبابية التى تجتاح أمريكا والغرب انطلاقا من حركة «احتلوا وول ستريت» Occupy Wall Street؟!..ليس الخوف من انتقال العدوى هو السبب ولكن المنع من المنبع، ولأن إعلامنا مازال يسير خلف الإعلام الغربى مثل قطعان الماشية التى لاعقل لها، فتجربتنا الإعلامية قاصرة لا تملك إرادة أن تكوّن تجربتها الخاصة الشجاعة الفريدة غير المقلدة، التى تناقش قضايا الأمة والتأثيرات الخارجية والداخلية عليها من منظورها ومنظور مصالحها وقناعاتها وليس من موقع التابع، وأن تفعل ذلك بشفافية ووضوح وذكاء دون حسابات جبانة. (1) حقيقة أولية تؤكد أن الاقتصاد والإعلام هما اللذان يتحكمان فى تسيير أمور هذا العالم الذى نعيش فيه، فهل لك أن تعرف أن مجموعة «نيوز كوربوريشن» التى يملكها اليهودى روبرت مردوخ تعمل فى ثمانية قطاعات للإعلام منها الأفلام الترفيهية والتليفزيون وبرامج شبكة الكابلات والبث المباشر من خلال الفضائيات والمجلات والجرائد ونشر الكتب، ونشاطها فى الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة والقارة الأوروبية واستراليا وآسيا وحوض المحيط الهادئ، وعدد مشاهدى قنواتها أكبر من عدد مشاهدى القنوات العربية كلها، وايرادات المجموعة السنوى يبلغ 23 مليار دولار حوالى (138 مليار جنيه مصرى) وهو يساوى الناتج القومى لدولة فى حجم الأردن وأكبر من الاقتصاد البحرينى واللبنانى واليمنى والسودانى والموريتانى والصومالى. وبسبب هيمنة شركات وأشخاص مثل مردوخ على وسائل الإعلام الغربى وترتبط مصالحه بمصالح الاقتصاد الرأسمالى يعمى على هذه الأحداث، ويتم حجب كثير من المعلومات عن هذه الاحتجاجات التى يمكن وصفها بالفوضى الثورية. انطلقت الأحداث فى 17 سبتمبر من العام الماضى بخروج متظاهرين بالمئات فى شارع «وول ستريت» أحد شوارع مانهاتن بمدينة نيويوركالأمريكية، وشارع وول ستريت يمثل الواجهة الرئيسية للسوق الأمريكى حيث توجد فيه بورصة نيويورك وكثير من الشركات المالية الأمريكية الضخمة، لذلك أصبح رمزا للرأسمالية العالمية المتوحشة التى تناصبها الاشتراكية العداء.ولذلك أيضا انطلق غضب المحتجين ضد مؤسسات المال فى نيويورك ومدرائها الأشرار الذين يسيطرون على البورصة ومضارباتها منتهجين فى ذلك سلوكيات غير قانونية تتصف بالجشع والاستخفاف كما يصفهم المحتجون. ..كان قد سبق هذا الانفجار بأسابيع دعوات من نشطاء الحركة تم إرسالها عبر البريد الأليكترونى لكثيرين حول العالم (كنت واحدا منهم) وتم إنشاء موقع يحمل اسم الحركة التى تعاطفت معها حركات أخرى وناصرتها حول العالم، وخرج فى الأيام والأسابيع التالية عشرات ومئات الآلاف من الغاضبين يتظاهرون فى أكثر من ألف مدينة فى 25 دولة تضم بعضاً من أكبر اقتصاديات العالم، وتوسعت الحركة لتتحول إلى ما يشبه ثورة عالمية. قبل تظاهرة «احتلوا وول ستريت» الأولى بحوالى أسبوعين كنت قد قرأت خبرا عن الحركة واستلهامها للثورة المصرية، وبسهولة استطعت أن أصل إلى بريدهم الالكترونى وسجلت عنوانى البريدى على موقعهم فصارت أخبارهم تصلنى بانتظام وكذا دعواتهم للانضمام إلى حركتهم ومناصرتها، وفى البداية شعرت بكثير من الفخر كونى مصريا لما وجدت نشطاء الحركة والمتحدثين باسمها يعلنون أن المصريين روادهم ويعود إليهم الفضل فى هذا الإلهام الثورى، انطلاقا من أحداث ميدان التحرير المصرى، وهذا هو السبب الذى دفع نشطاء وول ستريت للبحث عن ميدان يحمل اسما قريبا من ميدان التحرير ونصبوا فيه خيمهم ورفعوا لافتاتهم مكتوبًا عليها شعارات مستلهمة أيضا من شعارت ميدان التحرير المصرى ، فصارت لدى رغبة كبيرة فى تشجيع ومناصرة هؤلاء المحتجين ضد أمريكا الرأسمالية التى فاحت رائحة تدخلها - الكريهة – فى أجواء الربيع العربى وبات واضحا أن لها مصلحة فى نشر الفوضى والانقسامات فى مصر وبلاد الربيع لذلك لاتريد لثوراتها أن تهدأ. كان هذا شعورى الأول ورغبتى وأمنيتى التى انكسرت فيما بعد عندما رصدت هذا الحبل السرى الذى يربط ما يحدث فى الداخل بمثيله فى الخارج، وبعد أن زارت مواقع هذه الاحتجاجات نماذج مشبوهة من شباب مصرى ثبت أنه تلقى تمويلًا ودعمًا من الخارج لتنفيذ مهمات ثورية فى الداخل.. سافر هؤلاء المعنيون فى رحلات إلى أمريكا وقبلها وبعدها فى رحلات لم يكن يملكون من قبل هم وأهلوهم أعشار مصاريفها ونفقاتها، سافروا آلاف الأميال ليقفوا بين ثوار وول ستريت ويهتفون ضد رموز العسكرية المصرية والسلطة الانتقالية كان من الواضح جدا أنها رسائل تحريض ضد الداخل وليست مناصرة لحركة «وول ستريت»، وظهر أيضا فى الصورة جورج سورس الملياردير الأمريكى يدعم محتجى «وول ستريت» والغريب أنه يهودى مثل مردوخ لكن من الواضح أنه من المؤمنين والداعمين للثورة العالمية، وبدأت الصورة تكتمل مع رفع الثوار لرموز ومعتقدات الأناركية الفوضوية و«الأنونيموس» أى هؤلاء الأشخاص مجهولى الهوية الذين يخفون وجوههم بقناع «فنديتا» المستلهم من الفيلم الأمريكى الشهير «V For vendetta» و«فانديتا» كلمة لاتينية تعنى الانتقام والمعنى يتفق تماماً مع دعوات متضاهرى «احتلوا وول ستريت» الذين يغلب عليهم الاشتراكيون الثوريون والشيوعيون. (2) الثورة الدائمة هذا شعارهم.. ثورة ضد من؟!.. ضد السلطة أى سلطة.. سلطة الدين، سلطة الدولة، سلطة العائلة، فى ميدان التحرير المصرى أيام الثورة الأولى والأسابيع التالية رأينا هؤلاء الشباب من الأولاد الذين يطلقون شعرهم مسترسلا خلف ظهورهم أو يقصعونه برباط فى كحكة أو ذيل حصان، والشابات اللاتى يتشبهن بالأولاد فى زيهم وسلوكهم ينادون بإسقاط النظام الأبوى ويطلبون الحرية المطلقة المتحررة. وفى تفسير علم النفس الاجتماعى أن الإنسان يتمرد على السلطة عندما لا يستطيع أن يتحمل وطأة الظلم والفجور ، أو يتولد لديه شعور بالعدمية فيثور ويسعى إلى هدم المعبد حتى لو سقط على رأسه قبل رؤوس أعدائه، فليس هناك ما يبكى عليه ويجعله يتمسك بالمجتمع والدولة.. ظلم اجتماعى، بطالة، عدم وجود مأوى مناسب، أغنياء يمارسون السفاهة دون اكتراث بحقوق المنسحقين الذين يعيشون قريبًا منهم ويراقبون أفعالهم، لصوص تشجعهم النظم الحاكمة، كل هذا حدث فى مصر فخرجت الحشود الغاضبة فى يناير 2011، وحدث أيضا ويحدث فى أمريكا وعديد من الدول التى امتدت إليها شرارة «احتلوا وول ستريت» وفى كل الحالات كان هناك طرف واحد خفى يحرك الأمور من وراء ستار، هو هذا المحرض الموسوس المتحكم فى وسائل التواصل الاجتماعى والموجه لها بأساليب غاية فى الذكاء والخبث، يبث من خلالها الحقد المقدس فيملأ به نفوس الشباب والرجال ويدفعهم إلى الثورة الدائمة. هذا الطرف هو الذى ابتدع شعارات الثورة حتى صارت عالمية مثل الهامبورجر والكوكاكولا، سابقة التجهيز وجربها فى ثورات العالم الملونة فى أوروبا الشرقية والربيع العربى، وهى نفسها التى تم استنساخها فى ثورة احتلوا وول ستريت، نفس الرسوم: القبضة المضمومة وتنويعاتها المنتشرة حول العالم فى حركة 6 إبريل والاشتراكيون الثوريون، والحركات الشيوعية وكذا رموز الأناركية وقناع «فانديتا»،.. ماذا يحدث؟! (3) من عساه يكون هذا الشيطان الذى يتسلل إلى عقول الشباب فيملؤها بأفكار تحرك الطاقة الفائرة فى أجسادهم فيثوروا؟!.. أقصد هل هى مجرد أفكار أنتجها الصراع التاريخى بين العقائد والأيديولوجيات وبعضها البعض؟ أم هى نتاج لمخططات أصحاب مصالح ومشاريع سياسية؟. هناك نظرية تميل للطرح الأول وتربط هذه النظرية ما بين الاشتراكية فى صراعها التاريخى ضد الرأسمالية والأناركية كحركة اجتماعية وفكر سياسى. أما أصحاب نظرية المؤامرة فيرون أن اليهودية العالمية وأدواتها المتمثلة فى الصهيونية الدينية والسياسية والماسونية تقف وراء هذا الشر الذى يحاول أن يسيطر على العالم وأن هذا الصراع سوف يقودنا لا محالة إلى دخول عصر المسيخ الدجال الذى نعيش الآن علامات ظهوره، ويعتمد أصحاب هذه النظرية فى إثبات صحة نظريتهم على مخطط المؤامرة المشهورة «برتوكولات حكماء صهيون» والمؤلفات التى فضحتها مثل «أحجار على رقعة الشطرنج». وأيا ما تكون الحقيقة فهناك الآن واقع ملتبس نعيشه ونعاينه بأعيننا، وفوضى ضاربة بأطنابها فى جنبات المسكونة وإعلام مضلل هناك ومغّيب هنا تضيع الحقيقة بينهما، وعالم رأسمالى متوحش يرقص على جثة عالم مريض متخلف، حتى صار كلا العالمين تتهددهما الفتنة التى تهدم ولا تطرح بديلا مقنعا للبناء على الأطلال. (4) ماهو مصيرنا أو مصير بلادنا؟! وعلماء وحكماء الأمة موزعون بين مائة طائفة وحزب لا يمنحون الجماهير إجابات مقنعة عن حاضرهم، ولا مستقبلهم..اللهم رحمتك نرتجيها.