الحديث عن حرب أكتوبر ذو شجون خاصة إذا كان مع احد أبطال هذه الحرب، الذين ضربوا مثالا فى التضحية والفداء، ومازالت المدارس والمعاهد العسكرية تتدارسه على مستوى العالم ، ونحن نحتفل بالذكرى ال 39 لنصر أكتوبر حاولنا توثيق بعض المعارك التى خاضها الأبطال على جبهة القتال من خلال مجموعة من الحوارات ، مع أبطال أكتوبر ومنهم اللواء الدكتور ممدوح حامد عطية , والذى كان احد شهود العيان على النكسة عام 1967 ثم نصر أكتوبر 1973 ، ليروى ل « اكنوبر» تفاصيل الاستعداد للحرب وكيف تحقق النصر رغم التفوق العسكرى الاسرائيلى. * فى البداية نود ان نتعرف اين كنت يوم 5 يونيو 1967 ؟ ** قبل حدوث حرب يونيو 1967كنت في ذلك الوقت بإدارة الحرب الكيماوية بالقاهرة استدعاني المدير اللواء لطفى السعيد رحمه الله في البدايه قال لى اعملى لى مسحًا لمدى استكمال الوحدات، وكنت فى ذلك الوقت في فرع العمليات وقدمت له التمام، وقلت له يا فندم فيه كتيبة على خط القنال وتمامها انها بدون قائد . علي الفور كان رده: إيه رأيك يا ممدوح تكون أنت قائد هذه الكتيبة . فرددت عليه : تمام يا فندم قال لى : سوف نمنحك فرصة لقيادة الكتيبة وكانت رتبتي فى ذلك الوقت مقدم اركان حرب . وهنا تجد حنكة القائد وقدرته على اتخاذ القرار السريع والمناسب , وبعد نصف ساعة استدعانى قائلا : ايه رايك يا ممدوح تسافر غدا . فرددت عليه : تمام يا فندم حاضر . وسافرت الى منطقة القناه , تم عملية تعبئة الكتيبة، وتم رفع مستواها، وكنا مسئولين عن حماية قواتنا من اثار اى اسلحة دمار شامل يستخدمها العدو فى المعركة، ونحن نعلم ان اسرائيل دولة نووية ولديها اسلحة بيولوجية , وكيماوية، كل ذلك كان فى مخيلتنا ونحن نرفع درجة الكتيبة، بعد ان تم ترتيب اوضاع الكتيبة ورفع كفاءتها، صدر لنا الامر بالتحرك الى منطقة الحسنة على الحدود وكان ذلك قبل هجوم 5 يونيو1967 بأسبوع , وأول ما وصلنا الى هناك بدأنا انا وزملائى وتعاونا لرفع مستوى الكتيبة . كنا فى حالة الاستعداد الكامل للوقاية من اسلحة الدمار الشامل وكان هذا ضمن المشروع التكتيكى الشامل الذى كانت تقوم به القوات المسلحة , واتخذنا المواقع الدفاعية وقمنا بعمل اجراءات الاخفاء والتمويه كما تعلمنا، وفى يوم النكسة وبالتحديد فى الساعة الثامنه صباحا، فوجئت عند صعودى على تبه عاليه لاجد انفجارات فى اتجاه العريش والمليز و فى وسط سيناء، بعد ذلك علمنا ان الطائرات الاسرائيلية قد هاجمت طائراتنا وهى على الارض . وكان الامر من قائد الجبهة فى ذلك الوقت الفريق عبدالمحسن كامل مرتجى بالانضمام إلى القوات فى الضفة الغربية للقناه للدفاع عن مصر خاصة بعد ضرب القوات الجوية الإسرائيلية لطائراتنا وهى على الأرض. وانضممنا إلى القوات المسلحة الموجودة غرب القناة وتم التمركز فى المنطقة بعد الانسحاب من سيناء . بعدها بدأت العمليات العسكرية من خلال عناصر الصاعقة التى كانت تقوم بعمليات خاطفة واذكر فى إحدى العمليات تم أسر أحد الجنود الإسرائيليين وكان «تخين» وسقط من على المنحدر فكسرت ساقه، فقام الجنود المصريون بعمل نقالة مزدوجة لحملة وسبحوا به فى القناة ووصلوا به إلى الضفة الغربية، واستمرت هذه العمليات خلال فترة حرب الاستنزاف، وتمت عمليات التدريب المتواصل عقب النكسة مباشرة وحتى حرب أكتوبر . وكان المشير احمد إسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة يتابع عمليات التدريب لحظة بلحظة ويحضر مشروعات التدريب . وتدربنا على عمليات عبور المانع المائي . *وكيف استعدت مصر من أجل التصدي لإسرائيل؟ ** لقد أجمع كل القادة في مصر علي أنه لا سبيل لأن تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة إلا بالحرب، ومن هنا كان لابد من توافر القوي المصرية من أجل التصدي لإسرائيل، فاعتمدت مصر علي الحقائق بالعمل في ثلاثة اتجاهات: أولا خطة الدبلوماسية المصرية المكثفة بهدف الوصول إلي تأييد عالمي للقضية العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وخطة الوحدة العربية بهدف جمع شمل العرب دون البحث عن تفصيلات من أجل مواجهة إسرائيل، إلي جانب الخطة الأهم وهي خطة إعداد القوات المسلحة المصرية إعدادا كاملا لخوض المعركة المصيرية الحتمية. وهناك نقطة في غاية الأهمية: فقد علم الشعب المصري أن مسئولية معركة التحرير ليست مسئولية القوات المسلحة وحدها إنما هي أيضا مسئولية الشعب. وقد برزت من خلال مناقشات مجلس الشعب المصري أن معركة التحرير ذات شقين مترابطين: أحدهما يتعلق بالوجود العسكري الإسرائيلي، والثاني يتعلق بالدعم الأمريكي الذي يضمن هذا الوجود، لذلك كان الإصرار المصري علي وجوب التصدي لإسرائيل بالقوة المسلحة. ولقد كان من البديهيات الضرورية للمعركة ملاحظة التالي: إن القوة البشرية في مصر وسوريا تزيد كثيرا علي القوة البشرية في إسرائيل، وإن قدرة السلاح توازي أيضا القدرة البشرية مع فارق نوع السلاح وإمكاناته، فالمعروف أن الحروب تعتمد علي أحدث الأسلحة، وقد استطاعت إسرائيل الحصول علي أحدث الأسلحة الأمريكية في حين حصل العرب علي بعض هذه الأسلحة، ووضعت مصر طاقتها البشرية في خدمة المعركة، بالإضافة لإطلاع الشعب علي حقيقة ما يجري في ميادين القتال، وكذلك تهيئة الشعب المصري - مسبقا - لتقبل أمر أساسي، وهو أن لا حرب بلا خسائر أو تضحيات، ولا توقع لانتصار من أي نوع حدث في اللحظات الأولي للمعركة. لذا كان لابد لمصر - حكومة وشعبا - من العمل بأقصى قدر من الطاقة والإحساس بالمسئولية نحو توفير المناخ الصحي الثوري لحرب التحرير. *كيف أثرت حرب الاستنزاف علي قوي إسرائيل؟ ** كان تأثير حرب الاستنزاف علي إسرائيل أنها عملت علي تجميد حركة القوات الإسرائيلية في سيناء داخل خنادق ثابتة، وإنهاك الجنود ماديا ومعنويا، وهم قابعون في خنادق ولا يستطيع أي منهم أن يرفع رأسه حتي لا تخترقه علي الفور رصاصة قناص مصري، وعلي إنزال خسائر يومية بالقوات الإسرائيلية، وتركيز أنظار الحكومة الإسرائيلية علي جبهة القناة، حيث يتساقط القتلي وتدوي أخبارهم في كل إسرائيل، فتزيد شعور الإسرائيليين باستحالة تحقيق ما وعدهم به قادتهم، وعجز السلطات العسكرية الإسرائيلية عن حماية قواتها الموجودة في القناة، وبالطبع فإنه ليس باستطاعة العدو أن يتحمل ما ينتابه من خسائر يومية لوقت طويل، وكان المقاتل المصري هو الذي خاض حروب الاستنزاف والمواجهة، وهو الذي ساهم في كسر معنويات المقاتلين الإسرائيليين، فقد تعلم الجندية وبرع فيها إلي أقصي حد برا وجوا وبحرا، وسار في منطلقاتها بنجاح وثبات. *هددت إسرائيل بتحويل القناة إلى جحيم فى حالة قيام مصر باقتحامها .. فكيف تغلبتم على ذلك ؟ ** عندما أقامت إسرائيل خط بارليف جهزته بأنواع الأسلحة الممكنة وغير الممكنة، فقد وضعت مئات الأسلاك الشائكة وقضبان السكك الحديدية التي سرقتها من خط سكة حديد القنطرة العريش، إلي جانب حفرهم لخنادق في الخط نفسه حتي يسمح للإسرائيلي أن يكون في مستوي أعلي من القناة، وبفعل كل هذه التحصينات اعتقدت إسرائيل أن هذا الخط سوف يقضي علي عزيمة مصر، وأن مصر لن تقتحم هذا المانع حيث إنهم غير مؤهلين لذلك، ودعمهم في ذلك أنهم انتصروا في 67، ولكي يطمئنوا أكثر أقاموا خمسة خزانات وقود مملوءة بالبترول المسروق من مصر يتدلي من كل خزان ماسورة مخفاة يسيل منها البترول علي سطح قناة السويس، وبجوار فتحة المواسير توجد أجهزة إشعال يمكن التحكم في اشعالها بواسطة زر. ومن هنا كان لابد من التفكير في حل، فذهبنا إلي موقع مثل قناة السويس، وأقمنا خزانا من البترول، وقمنا بتجربة إشعال النار في هذا الخزان لنعرف النتائج، وكانت النتيجة صعبة، فلقد وجدنا حرارة هذه النيران كافية لإسقاط جلود الجنود. فحاولنا إشراك مطافي القوات المسلحة، ومدافع الإطفاء الرغوي لكن ذلك كان مكلفاً للغاية. فاعتمدنا في النهاية علي ثلاثة حلول: أولاً أن نعامل خوذ الجنود وملابسهم بمادة مضادة للحريق، وثانياً: معاملة خشب القوارب أيضاً بمادة مضادة للحريق، وثالثاً: تزويد كل قارب بطفاية حريق وكان الحل الذي ابتكره أحد المهندسين العظماء، وهو القضاء علي الساتر الترابي نفسه بالمياه. وقد تدربنا علي كل ذلك من خلال مانع مائي شبيه بقناة السويس واستطعنا بفضل الله وبثقتنا في قدراتنا وشعبنا وقياداتنا أن ننزل أكبر هزيمة بالجيش الإسرائيلي وتحطيم خط بارليف الذي قالوا عنه (إذا أرادت مصر أن تحطم هذا الخط، فلتأتي بقنبلتين ذريتين وسلاحى مهندسين أحدهما روسي والآخر أمريكي). *كنت من المجموعة التي استجوبت الأسري الإسرائيليين فى 73، صف لنا حال الأسير الإسرائيلي وقت أسره؟ ** نعم لقد كنت من المجموعة التي استجوبت 240 أسيراً في السجن الحربي، ومعظمهم كان من الشباب، وقد كانوا مندهشين مما حدث، فلم يتوقعوا أن يحدث معهم ذلك، لدرجة أنهم كانوا يرفعون أعينهم عندما تأتي أي طائرة، وعندما سألناهم عن سبب ذلك، أجابوا بأن قاداتهم وعدوهم في حالة أسرهم سيأتون وينقذونهم لكن الواضح أنهم خُدِعُوا في قياداتهم العسكرية. *كيف تعاملتم مع الأسرى الإسرائيليين؟ ** لقد كنا نعاملهم بالحسني، فالأسير أمانة في أعناقنا (طبقاً لاتفاقية جنيف)، وقد كانت لي طريقة معينة في استجواب الأسري، فقد كنت اشتري لهم جاتوه وسجائر، وآمر بفك الغمامة التي كانت توضع علي عينه وكان هدفي الأول من ذلك إنسانياً، وهدفي الثاني أن أجعله يشعر بالأمان حتي يقول كل ما عنده، لدرجة أنه في أحد الأيام جاء ابني وهو غاضب وقال لي: كيف تعامل الأسري الإسرائيليين بالحسني، وهم يقتلون أسرانا، فأجبته بأن هذه هي أخلاق المصريين. وأيضاً في إحدي المرات كنت جالسا مع د. عبدالعظيم وزير، وقد أخبرني أنه أثناء حضوره أحد المؤتمرات الدولية، قالوا له: إن أحسن معاملة للأسري كانت من قبل الجيش المصري، وهذه حقيقة. *مواقف حدثت معك أثناء استجواب الأسري؟ ** عندما ذهبت أول مرة إلي السجن، طلبت أحد المهندسين العسكريين الإسرائيليين الذين كانوا مسئولين عن إشعال مادة النابالم وسألتهم: لماذا لم تشعل النابالم كما كنتم تهددون؟ فأجاب: لم أتوقع أن تعبروا وعندما أيقنت أنكم تعبرون بالفعل، حاولت الإشعال، لكني وزملائي وجدنا المدفعية والطيران تمطرنا بوابل من الصواريخ والقنابل، فلم نستطع عمل شيء غير إنقاذ أنفسنا ولكننا لم نستطيع الحركة من شدة القصف حتى وصل إلينا الجنود المصريون وتم أسرنا . ومرة أخري، طلب مني شاب صغير سيجارة، وعندما أعطيتها له فاجأني قائلاً: أنت تشعرني بأبي حينما كان يعد لنا الكيك في البيت يوم عيد الغفران. وهناك موقف آخر فقد استجوبت في أحد الأيام طيارا فسألته: ما معلوماتك عن لبس القناع الواقي، فأجابني: أنا لا أعرف غير الأردب لأني في الأصل مهندس زراعي لكن أتيت من خدمة الاحتياطي لكي أقود طائرة فانتوم، وعندما سقطت بها قرب طنطا جريت وخلعت الأفرول، ومع ذلك اكتشفني بعض الفلاحين وبدأوا في ضربي لكن أنقذني منهم عسكري شرطة وسلمني للقوات المصرية. ويؤكد اللواء ممدوح أن هذا الشاب مهندس زراعي لكنه وقت الحرب يحارب، وهذا من خلال تدريبه كل فترة لرفع كفاءته، وهذا يحدث مع جميع الإسرائيليين، فإسرائيل جيشها شعبها، وشعبها جيشها , وهذا ما يجعل إسرائيل لا تتحمل سوى هزيمة واحدة فقط . *وكم من الوقت مكث هؤلاء الأسري، وماذا حدث معهم بعد ذلك؟ ** مكثوا حتي اتفاقية السلام، وتم استبدالهم بالمصريين الفلاحين الذين حصلوا عليهم في الثغرة من أجل ذلك الهدف. *قمت بدراسات عديدة عن أهم ما كتبته الصحف الغربية عن نصر 73، فما أهمها؟ ** كانت عملية العبور إلي الضفة الشرقية للقناة مذهلة للغاية، إذ لم يكن أحد من الخبراء العسكريين يتوقع أن تتم بهذا القدر الذي يكاد يخلو من الخسائر، وقد اتضح ذلك في معظم الصحف الغربية. وقد خصصت جريدة «الصنداي تايمز» في عددها الصادر يوم «14 أكتوبر 1973» مكاناً بارزاً وصف مراسلها في الجبهة عملية العبور المصري، وتحت عنوان «في 15 دقيقة كان الجسر يقام علي القناة» كتب مراسلها الإنجليزي: « وتحت مظلة المدفعية، وفي حماية الضربات الجوية، عبر المصريون في زوارق مطاطية ليكتسحوا أى مراكز إسرائيلية قد تكون مسيطرة علي النقاط المختارة لإقامة الجسور العائمة التي يمكن نشرها بمعدل 15 قدماً في الدقيقة، وبما يكفل إقامتها في معظم أجزاء القناة في ربع ساعة أو أقل». وهناك مقال لا أنساه لعالم الاجتماع الصهيوني الفرنسي المعروف « ريمون أرون « نشره في « الفيجارو» يوم 6 نوفمبر 1973 بعنوان « ولقد كانت حرب أكتوبر من أكبر المفاجآت العصرية «.