لم تكن حرب أكتوبر خبط عشواء، أو حلم ليلة صيف كما يدعى أعداء الرئيس السادات، أو أنها كانت للشو الإعلامى كما يقول أعداء القوات المسلحة، لم يكن قرار الحرب خطبة حماسية لإلهاب مشاعر الجماهير بلا تخطيط أو تنفيذ.. قرار الحرب الذى اتخذه الرئيس السادات هو أصعب قرار اتخذه رجل الأقدار الذى دخل الحرب وتحمل مسئولية القرار.. كان الرجل يؤمن - رحمه الله - بقواته المسلحة وبعظمة رجالها الأشداء.. كان قدره أن يتحمل السياسات الفاشلة التى زجت بالجيش المصرى، فى حروب لم يكن مستعدًا لها، انساقت القيادة السياسية حول الزعامة والقومية العربية، والقتال حتى آخر جندى مصرى فى حروب 48 و56 و67. الرئيس السادات عندما اتخذ قرار الحرب كان يعمل لمصلحة مصر وشعبها لم يهنأ الرئيس السادات إلا بعد عودة سيناء إلى حضن الوطن، ولم يستقر إلا بعد عودة شرف العسكرية المصرية إلى سابق عهدها. وفى حديثه لأكتوبر وصف الكاتب الصحفى الكبير عبده مباشر الرئيس السادات ب «رجل الأقدار» فقال: مصر كانت بعد 67 فى قمة الفشل، وكانت إسرائيل فى قمة الانتصار وبالتالى كانت فى حاجة إلى زعيم وقائد ينقل مصر من القاع للقمة، وجاء القدر بالرئيس السادات، حيث كان انتصار أكتوبر هو الابن الشرعى لقرار الرئيس السادات وذلك لأنه دخل الحرب بدون قوة عظمى تقف بجواره، ويخطئ من يظن أن روسيا كانت حليفاً استراتيجياً فى حرب أكتوبر، لأنها لم تنس أن الرئيس السادات طرد الخبراء السوفييت، ولم تنس أيضاً خطوط الاتصالات السرية بين السادات وهنرى كيسنجر قبل الحرب، كانت روسيا تدرك أن السادات سيعطيها ظهره، أو بالعربى «سيبيعها» على عكس بعض الرؤساء العرب الذين يبحثون عن مصالحهم بصرف النظر عن مصلحة شعوبهم. ودلل الكاتب الصحفى الكبير عبده مباشر على أن روسيا لم تكن حليفاً استراتيجياً بموقف بسيط وهو أن القوات المسلحة احتاجت أيام الحرب إطارات كاوتش «عجلات» للمقاتلات القاذفة.. لتآكل الإطارات لكثرة الطلعات.. ولكن القيادة العسكرية الروسية رفضت بشكل دبلوماسى فأرسلت لنا أحذية كاوتش رجالى، كلها «شمال» حتى لا تنفع «طبلة ولا تار»، بدلاً من إرسالها إطارات المقاتلات القاذفة. روسيا وعبد الناصر ومع أن مناسبة الحديث هى حرب أكتوبر فإن مرارة حرب 67 مازالت فى حلق الكاتب الصحفى الكبير فقال: يجب أن نتعلم الدروس من النصر والهزيمة.. ففى 67 انساقت القيادة السياسية المصرية وراء مجلس السوفييت الأعلى والمخابرات الروسية عندما ادعوا على غير الحقيقة وجود حشود عسكرية إسرائيلية مع سوريا، لجر عبد الناصر والجيش المصرى لحرب مع إسرائيل، وكان ذلك فى أعقاب المعركة الجوية التى حدثت فوق دمشق بين المقاتلات الإسرائيلية والسورية فى أبريل عام 1967، ومع أن الفريق أول محمد فوزى رئيس أركان الجيش المصرى نفى «حكاية» الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا، وكذب هذا الادعاء أثناء تحليقه بطائرة عسكرية سورية على الحدود مع الجنرال سويدان رئيس الأركان السورى، أقول ومع ذلك انساق عبد الناصر للادعاءات الروسية وأمر بحشد القوات فى سيناء، وإغلاق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية، وطلب سحب قوات الأممالمتحدة على الحدود مما يعنى فتح الطريق أمام القوات المسلحة المصرية لتهاجم إسرائيل، مع أن مصر لم تكن مستعدة للهجوم، وكان كل ما لديها هو الخطة «قاهر» للدفاع عن أراضيها. السادات أما الرئيس السادات فقد أصدر فى 16 أكتوبر عام 1970 - أى فور توليه المسئولية مباشرة - قراراً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتخطيط لعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، وتحرير أرض سيناء أو جزء منها بالقوة فى ضوء الإمكانات المتاحة. وهذا يعنى أن نجاح القوات المسلحة مرهون بنجاح القرار السياسى.. والعكس صحيح، فإذا لم تكن القيادة السياسية وبالتحديد الرئيس -أى رئيس- غير «ملم» بالوضع العام.. وما يفكر فيه الآخر، وما يدور فى الغرف المغلقة فقل على الدنيا السلام. وفى سؤال لأكتوبر عن دوره الفعلى فى حرب 73 قال الكاتب الكبير عبده مباشر: اسمح لى أن أعود بالذاكرة إلى 67 حيث كنت فى منحة صحفية لألمانيا بناء على ترشيح أستاذنا العظيم جلال الحمامصى، وفى مساء 5 يونيه ذهلت من هول المفاجأة، رأيت خمسة من كبار الضباط الذين أعرفهم فى وسائل الإعلام الغربية فى حالة يرثى لها، سمعتهم يقولون لقد ضحكت القيادة السياسية علينا، كنت أتصور وقتها أننا نمتلك أكبر قوة جوية فى المنطقة، وأكبر قوة مدرعة، وصواريخ القاهر، والظافر، وكانت هذه حقائق فعلاً، ولكن القرارات الفاشلة جعلت القوات المسلحة الباسلة لقمة سائغة فى يد العدو. حملة مباشر ويتابع مباشر قائلا : عندما رأيت حال زملائى الضباط قررت قطع المنحة الصحفية والعودة إلى مصر فوراً، ولكن بعد ليلة كئيبة وحزينة وطويلة تريثت، حيث رأيت اليهود فى ألمانيا يقودون حملة تبرعات كبيرة تحت شعار تبرع بمارك واقتل عربيًا، فقمت بحملة مضادة أطلقت عليها تبرع بمارك لإنقاذ عربى.. وبالفعل جمعت 2 مليون مارك ألمانى تم دفعها للهلال الأحمر المصرى لشراء أجهزة طبية بالتنسيق مع سامى شرف. وبعد عودتى قررت الاشتراك فى الحرب، والوقوف مع الجنود على الجبهة والالتحاق بالمجموعة 39 قتال بقيادة البطل الشهيد إبراهيم الرفاعى كفدائى عمليات خلف خطوط العدو، فتقدمت بطلب مكتوب إلى قائد المجموعة الشهيد الرفاعى، أخلى فيه مسئولية القوات المسلحة فى حالة أسرى أو فقدى أو إصابتى او استشهادى، وطالبت فيه أيضاً المشاركة فى أعمال قتالية مباشرة مع العدو، ورغم موافقة إبراهيم الرفاعى فإن الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية رفض الطلب وقال: «باين عليك يا عبده عاوزنى أفتح له خزينة أسرار الجيش» مع أنه كان صديقى ويعرفنى معرفة جيدة، إلا أنه كان متخوفاً منى لا لشىء، إلا أننى صحفى، وهو يعلم أن الصحفيين يبحثون عن المعرفة دائماً. 39 قتال ومع ذلك - والكلام على لسان مباشر- لم أفقد الأمل واتصلت باللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية حيث وعدنى بحل المشكلة، وعرض الأمر على الفريق عبدالمنعم رياض، والذى وافق على عملى ضمن عناصر المجموعة 39 قتال، وعندما تم عرض الأمر على الرئيس عبد الناصر وافق أيضاً وقال تجنيد عبده مباشر فى المجموعة 39 شىء عظيم لأنه مقاتل مدنى و«هيشيل» جهاز الشئون المعنوية بمفرده، وأنه سيعطى دفعة لأفراد القوات المسلحة عندما يشاهدون مدنيا يقدم روحه فداءً لهذا الوطن. وعن ذكرياته فى حرب أكتوبر يقول: فى يوم 6 أكتوبر كنت فى الأهرام، ولم أكن على الجبهة كما كنت أيام حرب الاستنزاف وسبب عدم وجودى أن وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل كان قد أصدر قرارًا بمنع الصحفيين والإعلاميين من العبور فى الموجات الأولى خوفًا على حياتهم إلا أنه بعد العبور العظيم، وبعد اقتحام خط بارليف فى 6 ساعات وسيطرة الجيش على طول خط القناة تمت الموافقة الشفهية لبعض الصحفيين والإعلاميين وبناء عليه أخذت سيارة الأهرام مع زميلى المصور، وذهبت لمقابلة اللواء طارق الأسمر رئيس مجلس مدينة القنطرة غرب، حيث كنت أعرفه عندما كان قائداً لإحدى كتائب الصاعقة أيام حرب الاستنزاف، وطلبت منه العبور للضفة الشرقية لمقابلة اللواء فؤاد عزيز غالى قائد الغرفة 18 مشاه بالجيش الثانى الميدانى - الفريق فيما بعد. ثلاثة أيام وفيما يبدو أن اللواء الأسمر كان ينتظر الفرصة المناسبة للعبور، فحصلنا على قارب، وعبرنا القناة، وقابلنا وقتها العميد عبدالقوى محجوب قائد أركان الفرقة ثم اللواء فؤاد عزيز غالى، وأقمت معه ثلاثة أيام أتنقل فيها بين الألوية والكتائب والسرايا لأنقل لجموع الشعب مشاعر الفرحة، وأعمال البطولة التى تحلى بها المقاتل المصرى أيام الحرب، وكان الغرض من هذا هو الخروج من مرارة الهزيمة إلى قمة الانتصار والنجاح. ومن المواقف العصيبة، التى رآها الفدائى عبده مباشر، وخص أكتوبر بها، أنه أثناء وجوده مع الفريق فؤاد عزيز غالى حدث هجوم مدرع على مركز العمليات الذى يدير منه المعركة فى موقع متقدم، وكان عبارة عن ثلاث دبابات إسرائيلية وبحركة غير إرادية، وحتى دون أخذ الأوامر تحرك جنديان أحدهما «لف» لغماً على صدره، ونام تحت الدبابة الإسرائيلية، فانفجرت بمن فيها، وقدم روحه فداءً للوطن، والثانى جلس فى وضع قتالى، وأصاب الدبابة الثانية فتوقفت، إلا أن قذيفة أحد الجنود الإسرائيلية أردته قتيلاً، قبل أن يلاحقه جندى مصرى لقتله، أما الدبابة الثالثة فولت هاربة إلى أن تعقبها مقاتل مصرى وأصابها من الخلف، ثم ألقى عليها قنبلة فاحترقت بمن فيها. حكاية عايزرا ويضيف مباشر أنه فى عام 77 كلفه الرئيس السادات بمرافقة عيزرا وايزمان الرئيس الإسرائيلى فيما بعد فى رحلة سياحية بالإسكندرية وقلت له: ما هى مفاجأة حربى 67 و73 فقال عنصر المفاجأة كان المقاتل المصرى ففى الحرب الأولى رأينا جندياً تقليدياً لا يعبأ كثيراً بالسلاح الذى يملكه فيما كان المقاتل المصرى فى 73 أشبه بمعجزة القرن، وأننا لأول مرة كقادة إسرائيليين نرى جنوداً مصريين يواجهون مدرعة ومجنزرة بصاروخ محمول على الكتف، ورأينا جنديًا آخر يسقط طائرة بصاروخ سام 6 وسام 7 يا عزيزى والكلام على لسان الجنرال الإسرائيلى للأستاذ عبده مباشر إن الجندى المصرى فى 73 لم يكن من فصيلة البشر.