عالم المخابرات والجاسوسية عالم بلا حدود، بل هو عالم يتفرّد بأنه يسعى دوماً لتخطى كل الحدود، حتى حدود العقل البشرى نفسه، ولهذا، ففى منتصف الخمسينيات، من القرن العشرين، كانت هناك تجربة عجيبة تجرى فى الاتحاد السوفيتى، بوساطة فريق من علماء الطبيعيات، وتحت إشراف المخابرات السوفيتية (KGB) مباشرة، وفى سرية تامة ... الأمر الفريد والمميًَّز، فى تلك التجربة، هو أنها كانت تجرى فى مكانين فى آن واحد، ودون أى اتصال مباشر ... ففى (موسكو)، جلس شاب سوفيتى بسيط، لم يتم تعليمه أبداً، داخل حجرة من الرصاص السميك، القادر على حجب أية إشارات لاسلكية، وأمامه منضدة خشبية صغيرة، وضع فوقها رسم عشوائى، وضعه أحد افراد فريق العلماء المشرف على التجربة، دون تخطيط مسبق وكان كل المطلوب من ذلك الشاب، هو أن يحًَّدق فى ذلك الرسم العشوائى، ويفكًَّر فى شاب آخر، يجلس فى ظروف مماثلة، داخل حجرة مشابهة، وتحت إشراف فريق علماء مشابه، وطاقم من المخابرات السوفيتية ... وكانت أمامه منضدة صغيرة مماثلة، فوقها ورقة وقلم .. الفارق الأساسى، كان أن الورقة لم تكن تحمل أية رسوم، بل كانت ورقة بيضاء تماماً ... أما الفارق الآخر، فكان أن ذلك الشاب الثانى، لم يكن فى (موسكو) ... بل كان فى (لينجراد) .. ولقد بقى الشاب الثانى يتطلع إلى الورقة البيضاء بضع لحظات، ثم لم يلبث أن أمسك القلم، وراح يخط رسماً على الورقة، دون أن يفهم حتى ما يعنيه هذا الرسم ... الأمر العجيب، أن ذلك الرسم العشوائى، الذى وضعه شاب (لينجراد)، كان نسخة طبق الأصل من الرسم العشوائى، الذى رسمه أحد العلماء، ووضعه أمام شاب (موسكو) ... التجربة أدهشت علماء الطبيعيات إلى حد كبير، خاصة وأنهم يدركون أن الشابين لا توجد أية اتصالات مباشرة بينهما، وان المسافة بين (موسكو) و(لينجراد) تزيد على ألفى كيلو متر، والرسم كان عشوائياً وعفوياً تماماً ... وبعد إعادة التجربة ست مرات، مع النتائج المدهشة نفسها، أدرك العلماء، وأدرك رجال المخابرات السوفيتية، أن هناك رابط عقلى غير مفهوم بين الشابين، وهو ما اطلق عليه منذ زمن اسم (التخاطر العقلى)، أو (التليباثى) ... وعلى الرغم من أن هذا يخالف تماماً طبيعة عمل المخابرات، إلا أن كل جديد، يمكن الإفادة منه فيه ... ولهذا، فقد استبقت المخابرات السوفيتية الشابين، فى محاولة للبحث عن وسيلة الاستفادة من الاتصال العقلى بينهما، على نحو استخباراتى... فى البداية، وعندما تسًَّربت المعلومة إلى المخابرات الأمريكية، بدا لهم أنه أمر لا يستحق مجرًَّد التفكير، وأن المخابرات السوفيتية تسعى وراء خرافات، لا محل لها من الإعراب ... ولكن البحث فى ملفات الحرب العالمية الثانية، أثبت أن علماء النازيين كانوا أوًَّل من أولى اهتماماً كبيراً للظواهر فوق الطبيعية، وفوق النفسية، وأنهم أوًَّل من أعطى لاستغلالها، فى عمل أجهزة مخابراتهم، خلال فترة الحرب ... وهنا بدأت المخابرات الأمريكية تأخذ الأمر بالجدية اللازمة ... وفى نهاية الخمسينيات، بدأت أولى تجاربهم على الاتصال العقلى ... ففى غوًَّاصة أمريكية، وضع العلماء عدداً من أجنة الأرانب، وغاصوا بها إلى عمق كيلو متر كامل، تحت سطح الماء، فى حين تركوا الأم فى (واشنطن)، موصلة بأجهزة لقياس انفعالاتها ... وفى الغوًَّاصة، تم ذبح أجنة الأرانب واحداً بعد الآخر، مع تسجيل التوقيت بمنتهى الدقة ... وعندما عادوا إلى واشنطن، تبيًَّن لهم أنه فى كل مرة، يتم فيها ذبح أحد الأجنة، كانت الأرنبة الأم تصاب بحالة من الهياج العصبى، فى نفس التوقيت بالضبط، وبدقة مدهشة ... وأثبت هذا أن السوفيت لم يكونوا يعبثون، وأن التخاطر العقلى حقيقة، والأهم أنه موجود لدى كل البشر بنسب مختلفة، ولكنه لا يبرز إلا تحت عوامل خاصة، وضغوط بعينها ... ولقد سجًَّلوا حالة لرجل، كان ينام فى فراشه فى هدوء، ذات ليلة من ليالى الشتاء، عندما سمع فى وضوح صوت أقرب أصدقائه إليه يناديه، ويناشده المساعدة، فهب من نومه فزعاً ... ويبدو أن ما شعر به كان من القوة، حتى أنه نهض يرتدى ملابسه الثقيلة ومعطفه، ثم يستقل سيارته، ويقودها تحت المطر، لأكثر من خمسين كيلو متراً، دون أن يدرى لماذا يفعل هذا، ثم لم يلبث أن توقف عند نقطة بعينها، وغادر سيارته، ودخل إلى الغابة، عبر منحدر صغير، وكأنما هناك قوة تدفعه لهذا ... العجيب أنه، بعد خمسين متراً فحسب، وجد سيارة صديقه مقلوبة، وهذا الأخير لا يستطيع الخروج منها، بسبب ضغط مقعد القيادة على ساقه... ولقد عاون الرجل صديقه، الذى اندهش بشدة لقدومه، وأخبره أنه فى محنته، لم يفكًَّر فى سواه، ودار بخلده أن يطلب منه النجدة ... تلك الحالة سجًَّلتها المخابرات الأمريكية، وتيًَّقنت منها، إلا أنها لم تدر كيف يمكن أن تستفيد منها مخابراتياً، أما علماء الطبيعيات، فقد توصلوا إلى قاعدة الاتصال العقلى الأساسية، والتى تتكًَّون من مرسل ومستقبل ... ولقد تبيًَّن أن المرسل يجب أن يكون فى حالة توتر شديد، تدفع (الأدرنالين) إلى عروقه، وأطلقوا على هذه الحالة اسم (أدرينيرجيا) (Adrenergia)، أما المستقبل، فينبغى أن يكون فى حالة استرخاء، يطلق مادة (الأستيل كولين) فى عروقه، وهى مادة معاكسة للأدرينالين، وأطلقوا على هذه الحالة اسم (كولينرجيا) (Cholenergia)... العلماء توًَّصلوا لمعادلة الاتصال العقلى، ورجال المخابرات، سواء الأمريكية أو السوفيتية، لم يتوًَّصلوا إلى كيفية الاستفادة منها ... أو أنهم قد توًَّصلوا، إلا أنهم لم يفصحوا، واعتبروا هذا أحد اهم أسرارهم، التى قد لا تنكشف أبداً، فى عالم المخابرات، الذى لا يعرف أى حدود.. حتى حدود التعامل مع أسطورة الأطباق الطائرة ... ولهذا رواية أخرى.