بعد أن ألقى الأمريكيون قنبلتهم الذرية الأولى، والتى محت مدينة (هيروشيما) اليابانية من الوجود بضربة واحدة، فى السادس من أغسطس 1945 م، فوجئ الرئيس (هارى ترومان) بقادة العسكريين، وكبار رجال مكتب الخدمات الاستراتيجية، يطالبونه بإصدار أمر آخر، بإلقاء قنبلة ذرية ثانية، على مدينة (ناجازاكى) اليابانية أيضاً، والتى تقارب مساحتها وعدد سكانها، مدينة (هيروشيما).. ولقد غضب (ترومان) من الاقتراح فى شدة، وواجههم بأنه لا يوجد أى مبرًَّر على الإطلاق؛ للقيام بمذبحة ثانية، خاصة أن اليابانيين سيصابون بالذعر من القنبلة الأولى، وسيستسلمون حتماً، خلال فترة قصيرة، وتضع الحرب أوزارها، ولكنهم أخبروه فى حزم، أنه توجد مبرًَّرات أكيدة لإلقاء القنبلة الثانية، والتى أخفى عنه مكتب الخدمات الاستراتيجية أمرها، حتى وهو يأمر بإلقاء القنبلة الأولى؛ فالقنبلتان كانتا تعتمدان على نظامين نويين مختلفين تماماً.. الأولى كانت تطلق طاقتها الجبارة عن طريق الانشطار النووى، والثانية تطلقها عبر الاندماج النووى، والكل كان يريد اختبار تأثير كل منهما فى ساحة المعركة، والمقارنة بين تأثير الانفجار الانشطارى، والانفجار الاندماجى النووى، ولهذا وقع الاختيار منذ البداية على مدينتين، تتقاربان من حيث المساحة وعدد السكان؛ حتى تكون المقارنة أكثر دقة.. وكاد (ترومان) يبكى وهو يستمع إلى تحليلاتهم وتفسيراتهم، إلا أنه لم يملك، وتحت ضغط الفريقين، إلا أن يصدر الأمر، وقد فقد كل ثقة له بمكتب الخدمات الاستراتيجى، الذى يحجب عنه المعلومات وقتما يشاء، ويطرحها عليه فقط عندما يشاء.. وفى التاسع من أغسطس، أى بعد ثلاثة أيام فحسب، من إلقاء القنبلة الأولى، أسقطت القنبلة الذرية الثانية، والتى أطلق عليها الأمريكيون اسم (الولد السمين) (Fat Boy)، على عكس الأولى، والتى أطلقوا عليها اسم (الولد الصغير) (Small Boy).. أسقطت القنبلة على مدينة (ناجازاكى) اليابانية، فى تمام الساعة الثامنة والربع، ومحيت على أثرها المدينة تماماً، فى الثامنة وواحد وعشرين دقيقة.. ولقد أسفر إلقاء القنبلتين عن مصرع أكثر من مائتى ألف شخص لحظياً، ودون أن يدرك أى من مخترعيها تلك التأثيرات الإشعاعية التى ستخلّفها، والتى راح ضحيتها عدد مماثل، خلال السنوات العشر التى تلت ذلك.. وحقًَّق العسكريون ومدراء مكتب الخدمات الاستراتيجى ما كانوا ينشدونه؛ فلقد استسلمت (اليابان) فوراً، دون قيد أو شرط، مع تعهدها بإقامة دولة ديمقراطية، وإلغاء قدسية الامبراطور، والتعهًَّد بأن يظل تسليحها محدوداً، وألا تحاول بناء مفاعلات نووية، أو إنتاج قنابل ذرية.. وفى الوقت ذاته بلغت الرسالة كل دول العالم، التى صارت تدرك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تمتلك سلاحاً جبًَّاراً، قادراً على محو مدن بأكملها من الوجود، فى لحظات معدودة.. وكان أكثر من بلغته الرسالة، وأقلقته، وأفزعته، وأغاظته أيضاً، الاتحاد السوفيتى، الذى بدأت هزيمة الرايخ الثالث من أرضه، عندما دحر الهجوم الألمانى، بعد خطأ (هتلر) المميت، بوقف القتال على مشارف (موسكو)، وإجبار قواته على قضاء شتاء مفترس وسط الجليد، مما منح السوفيت فرصة إعادة تنظيم قواتهم، وشن هجوم شامل على القوات النازية، ودحرها، وإجبارها على الانسحاب، وهى تطاردها فى شراسة، حتى دخلت (برلين).. فبعد أن كان الاتحاد السوفيتى يرى نفسه كبطل قوى منتصر، فوجئ بأن الأمريكيين يمتلكون سلاحاً جباراً، يعجز عن مقاومته ومواجهته، وأنهم لو أرادوا، يستطيعون محو (موسكو) من الوجود بضربة واحدة.. وعلى الرغم من أنهم كانوا حلفاء فى الحرب العالمية الثانية، فإن (جوزيف ستالين)، ديكتاتور (روسيا)، كان يدرك أنه ما أن تستقر الأمور، حتى يبرز العداء التقليدى، بين الشيوعية والرأسمالية مرة أخرى، ويعود الصراع إلى الوجود، فى الوقت الذى صارت فيه (أمريكا) الدولة، التى تملك أقوى سلاح فى العالم.. لذا فقد كان أوًَّل ما طلبه (ستالين)، من جهاز مخابراته، هو حشد كل الجهود الممكنة؛ للحصول على سر القنبلة الذرية، وبأى ثمن.. وفى الوقت الذى بدأت فيه المخابرات السوفيتية العريقة، ذات الخبرة الواسعة، فى وضع خطتها بعيدة المدى؛ للحصول على سر القنبلة الذرية، والذى عكف فيه آلاف العلماء السوفيت، على دراسة الأمر، ومحاولة فك أسراره وتعقيداته، كان (هارى ترومان) يصدر قراره بحل مكتب الخدمات الاستراتيجية، ويسند إلى (آلان دالاس) مهمة إنشاء وكالة المخابرات الأمريكية، بعد أن قفزت مذبحتا (هيروشيما) و(ناجازاكى) بشعبيته إلى القمة، مادامتا قد انهيتا الحرب العالمية الثانية، التى فقد العالم بسببها اثنى عشر مليون شخص.. وبينما انهمك (دالاس) فى تكوين جهاز مخابراته، واختيار معاونيه، ووضع قواعد عمله الأساسية، والتى اشترط (ترومان) أن تحوى ما يحظر حجب المعلومات عن الرئيس، أياً كانت الأسباب، كان الروس يبدأون خطتهم بزرع أكبر عدد ممكن من عملائهم، فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى شهدت حمى سيل طلبات الهجرة إليها، بعد أن صارت أقوى دولة فى العالم، وصارت بعد الرخاء الاقتصادى الذى حظيت به، عقب الحرب، والذى محا تماماً أثر الأزمة الاقتصادية العنيفة، التى عانت منها فى أواخر العشرينات وحتى نهايات الثلاثينات، هى الحلم والأمل، بالنسبة لعدد كبير من الجنسيات المختلفة، وكانت فرصة مثالية للسوفيت، أن يزرعوا أكبر قدر من عملائهم، فى المجتمع الأمريكى، عبر سيل المهاجرين الجدد، ولأن (انجلترا) كانت حليفاً للولايات المتحدةالأمريكية خلال الحرب، وتشترك معها فى المنهج الرأسمالى نفسه، فقد استغل السوفيت الدمار الذى أصابها، وضياع العديد من سجلاتها خلال الحرب، وزرعوا فيها مجموعة من عملائهم أيضاً.. ووفقاً للإحصائيات غير الرسمية، زرع السوفيت ما يزيد على ألفى وثمانمائة عميل، فى الولاياتالمتحدةالأمريكية و(انجلترا)، خلال السنوات الخمس، التى تلت الحرب العالمية الثانية.. خلال كل هذا، كان الأمريكيون يواصلون محاولات تطوير القنبلة الذرية، وإجراء الأبحاث لإنتاج القنبلة الهيدروجينية، والعمل على إنتاج قنابل نووية أصغر حجماً من القنبلة الأولى، التى عابها حجمها شديد الضخامة، واستعانت فى هذا بنفس الطاقم الذى أشرف على مشروع (مانهاتن)، والذى ضم عدداً من أبرز علماء الفيزياء، مثل (أنريكو فيرمى) و(هارولد أورى).. وفجأة، وبينما بلغ الزهو الأمريكى مبلغه، واعتقدت المخابرات الأمريكية أنها قد صارت واحدة من أكبر أجهزة المخابرات العالمية، وصلها نبأ شديد الخطورة، إلى أقصى حد..