الشهرة الأسطورية للمخابرات الأمريكية، هى فى واقعها شهرة دعائية وسينمائية، بأكثر منها حقيقة، تماماً كالبطولات الأمريكية الخارقة، التى تبهر المشاهدين، على شاشة السينما، ثم لا نراها فعلياً على أرض الواقع، فسواء المقاتل، أو رجل المخابرات الأمريكى، يستند على قوة السلاح، وتطوير التكنولوجيا، بأكثر مما يستند إلى كفاءة وقوة الأفراد؛ فالنظام الأمريكى فى مجمله يعتمد على تفوقه العلمى، سواء فى التسليح، وابتكار أسلحة الدمار والدمار الشامل، بأكثر مما يستند إلى الأمريكيين أنفسهم.. والمخابرات الأمريكية، على الرغم من أنها تتبع الرئيس الأمريكى مباشرة، فإنها لا تتوًَّرع عن خداع الرئيس نفسه، أو حتى اغتياله لو لزم الأمر؛ للحفاظ على قوتها وتفوًَّقها ... وفى عالم المخابرات الأمريكية، لا توجد حدود أو قواعد، باستثناء قاعدة واحدة، تشترك معها فيها المخابرات الإسرائيلية، وهى أن تنتصر دوماً.. وبأى ثمن.. وحتى عندما كانت فى مهدها الأول، كمكتب للخدمات الاستراتيجية، فى عهد الرئيس (هارى ترومان)، ومع أبحاث القنبلة الذرية، كان هناك سباق عنيف، بين (ألمانيا) و(أمريكا)، فى محاولة لكل منهما، للتوًَّصل إلى إنتاج أوًَّل قنبلة ذرية قبل الآخر؛ إذ أن العلماء الألمان هم أوًَّل من وضعوا فكرة القنبلة الذرية، ولكن نظام الحكم القمعى النازى دفعهم إلى الفرار من (ألمانيا)، ومن (أوروبا) كلها، واللجوء إلى (أمريكا)، التى عرضوا عليها خدماتهم فى هذا المضمار؛ ولأن الفكرة كانت تعنى إنتاج سلاح جبًَّار، يستطيع من يمتلكه السيطرة على العالم اجمع، فقد أولت (أمريكا) الأمر اهتماماً بالغاً، وحوًَّلته إلى مشروع عسكرى بالغ الاهمية، وعينت جنرالاً كبيراً للإشراف عليه ... والطريف أن مشروع إنتاج أوًَّل قنبلة ذرية كاد يفشل بسبب التفكير العسكرى لذلك الجنرال، الذى كان يتفقًَّد المشروع بنظرة عسكرية، عندما فوجئ بقاعة كبيرة، بها عدد من أصحاب المعاطف البيضاء، يجلسون فى استرخاء، لتناول الشاى والقهوة، وتبادل الحوارات والأحاديث، وكل حين وآخر، ينهض أحدهم إلى لوح أسود كبير، فيدًَّون عليه بعض المعادلات، أو يعدًَّل أو يضيف حرفاً أو رقماً، إلى معادلة هنا أو هناك، فغضب بشدة، ووصف مجموعة أصحاب المعاطف البيضاء هؤلاء بالكسالى، الذين لا يقدمون ما يساوى رواتبهم، وكاد يصدر قراراً عسكرياً بإيقافهم عن العمل، لولا أن سارع من حوله بإخباره أن هؤلاء الكسالى هم مجموعة العلماء، التى تقوم بالعمل كله فعلياً، أمام الباقون، والذين يعملون بجهد ودأب، هم مجرًَّد منفذين لتعليمات هؤلاء فحسب.. ولا أحد يدرى كيف كان من الممكن أن تتطوًَّر الأمور، لو أنه أوقف علماء الطاقة الذرية بالفعل عن عملهم حينذاك؟!.. المهم أن مكتب الخدمات الاستراتيجية قد نجح فى الحفاظ على سرية المشروع، حتى تم إنتاج قنبلتين ذريتين بالفعل، واحدة تعتمد على الانشطار النووى، والأخرى على الاندماج النووى.. وعندما جاء (هارى ترومان) إلى السلطة، فى الثانى عشر من إبريل، عام 1945 م، خلفاً للرئيس (فرانكلين روزفلت)، خشى رجال مكتب الخدمات الاستراتيجية من طبيعة الرئيس الجديد، الذى وإن اعتمدت خلفيته على الخدمة العسكرية كضابط مدفعية، إلا أنه كان رقيق المشاعر، إلى الحد الذى يخشون فيه من عدم تجربة سلاحهم النووى، الذى يفترض منه أن يضعهم على قمة العالم، لذا فقد أخفوا عنه تماماً مشروع القنبلة الذرية، حتى أجروا أوًَّل تفجير اختبارى لها، فى السادس عشر من يوليو، فى العام نفسه، فى صحراء (ألاموجوردو)، فى ولاية (نيومكسيكو)، واطلقوا على تلك التجربة الاختبارية اسم (القنبلة أ)، (A-Bomb)، وأثبتت التجربة نجاحها الفائق، ونجاح مشروع (مانهاتن)، وهو الاسم الذى أطلقوه على مشروع إنتاج القنبلة الذرية.. المشكلة التى بقيت أمامهم هو أن (ألمانيا) قد سقطت بالفعل، ولم يكن هناك أى مبرًَّر لاستخدمها هناك، ثم إن نتائج التفجير الاختبارى كانت تعنى أن الدمار سيكون شاملاً، حتى إنه سيتحتم سحب القوات المتحالفة تماماً، قبل تفجير القنبلة، و(اليابان)، وإن كانت مستمرة فى المقاومة، إلا أن المراقبين كلهم أجمعوا على أن سقوطها وشيك ... وفى الوقت ذاته، رأى رجال مكتب الخدمات الاستراتيجية، أنه من غير المنطقى ابتكار سلاح هائل مخيف كهذا، دون أن يدرك العالم قوته وتأثيره، لذا فقد فاتحوا الرئيس (ترومان) فى الأمر، وطلبوا منه إصدار أوامره باستخدام القنبلة الذرية، على مدينة (هيروشيما) اليابانية.. ولقد أصيب (ترومان) بالفزع؛ لوجود سلاح جبًَّار كهذا، وأخبر القادة العسكريين، ورجال مكتب الخدمات الاستراتيجى، أنه لا يجد أى مبرًَّر لاستخدامها؛ باعتبار أن الحرب قد أوشكت على الانتهاء بالفعل، ولا يوجد سبب لارتكاب أكبر مجزرة فى التاريخ، ولكنه فوجئ بمعارضة الجميع، قبل أن يحسم مدير مكتب الخدمات الاستراتيجى الأمر بقوله : «ما فائدة أن تمتلك سلاحاً جباراً، دون أن يدرك العالم هذا».. وهكذا، وعلى مضض، أصدر (ترومان) الأمر بإلقاء القنبلة الذرية الأولى على (هيروشيما).. وفى السادس من أغسطس، عام 1945 م، تم إسقاط أوًَّل قنبلة ذرية، على مدينة (هيروشيما) اليابانية.. وكانت النتيجة رهيبة.. آلاف القتلى لقوا حتفهم لحظياً، ودمار شامل أصاب المدينةاليابانية الكبيرة، من أقصاها إلى أقصاها.. وعندما بلغ الأمر (ترومان)، أخفى وجهه بين كفيه، وقال منتحباً: «لقد صرت أكبر سفاح عرفه التاريخ».. فى نفس الوقت، لم يكن اليابانيون قد فهموا أو استوعبوا بعد ما حدث، ولا كيف زالت مدينة كبيرة من مدنهم فى لحظة واحدة، وكيف أصابها كل هذا الدمار، فى غفلة من الزمن، وراح خبراؤهم يسعون لتحليل وفهم ما حدث، على ضوء كل ما كان معروفاً آنذاك؛ فاقترح بعضهم أن الحلفاء قد أرسلوا آلاف الطائرات، فى غارة جوية شاملة، وأنها قد القت كل حمولتها من القنابل دفعة واحدة، وفى توقيت واحد، محدثه ذلك الدمار الشامل، واقترح البعض الآخر أن الطائرات ألقت حمولة هائلة من مسحوق الماغنسيوم، الذى تم إشعاله بقنبلة واحدة، وبينما يضربون أخماساً فى أسداس، أعلن الأمريكيون أنهم قد ألقوا على (هيروشيما) قنبلة جديدة واحدة.. ولم يصب اليابانيون وحدهم بالذعر، بل أصيب به العالم اجمع، من هول ما جاء فى الإعلان الأمريكى.. كان (ترومان) يتصوًَّر حينذاك أنه قد انتهى من أسوأ قرار اتخذه فى عمره كله، إلا أن القادة العسكريين، ورجال مكتب الخدمات الاستراتيجية فاجأوه بأنه مازال هناك ما هو أسوأ.. بكثير..