كلها إرهاصات سلبية تلك التى واكبت فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية فى العاشر من الشهر الجارى وتشى فى نفس الوقت بأجواء هزلية لا تتناسب ووقار المنصب الذى يتولاه الفائز به، حيث يضعه على رأس الدولة ويتجاوز به مكانته من موظف إلى رمز. ومن هنا فإن الواجب أن تكون الإجراءات المصاحبة لخطوات الترشح متناسبة مع الأهمية القصوى لهذا المنصب خاصة فى هذه الظروف الدقيقة التى تمر بها مصر عقب ثورتها المظفرة فى الخامس والعشرين من يناير من العام الماضى.. وإذا كان من أهم سمات الشعب المصرى التى اشتهر بها بين شعوب العالم هى خفة الظل والسخرية اللاذعة حتى إنه إن لم يجد مادة ساخرة فيسخر من نفسه فى إطار فلسفى يعكس حضارته ذات العشرة آلاف عام ولكنه فى هذا العام قد تجاوز حدود خفة الظل ومواطن السخرية إلى ما هو أبعد من ذلك وهو النيل من كرامته أمام دول العالم صاحبة التجارب المماثلة فى الانتخابات الرئاسية.. وإذا كانت الولاياتالمتحدة هى المثل والقدوة فى زماننا الراهن وذات الصدى الإعلامى الواسع فى انتخابات رؤسائها، حيث ترصد سائر وسائل الإعلام العالمية مراسم هذه الانتخابات فى متابعة دقيقة وملاحقة إخبارية تجعل من هذا الحدث حدثاً رئيسياً تهتم به كل دول العالم لما للولايات المتحدة من تأثير فى منظومة السياسة العالمية.. رغم كل ذلك نجد عدد مرشحى الرئاسة بها لا يتجاوز الخمسة حين تزدحم قائمة المرشحين بينما يكون الأبرز وصاحب الفرصة الحقيقية فى الفوز لا يتجاوز ممثلا للحزب الجمهورى وآخر للديمقراطى وما عداهما يشارك فى العملية الانتخابية ذرا للرماد فى العيون أو رغبة فى الشهرة أو التمهيد لدورات رئاسية مستقبلية.. وإذا ما استعرضنا نماذج فى الانتخابات الرئاسية فى دول العالم التى تماثلنا بعيدا عما تسمى بالدول العظمى فإن التجارب تؤكد أن أعداد المرشحين لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وكلهم من أصحاب التاريخ السياسى المشهود والتجربة التى تدعمها الممارسة فى ذات المجال ولنا الأمثلة واضحة فى دول أوروبا الشرقية كرومانيا وبلغاريا وسائر دول القوقاز التى نتجت عن «تفكيك» الاتحاد السوفيتى السابق ويوغوسلافيا.. وإذا أردنا ألا نذهب بعيدا فإن دولا عربية مرت بنفس التجربة دون أن ترتبط بمثل ما يحدث لدينا من مهاترات تفقد التجربة ما نصبوا إليه من جدية مسئولة وحدث ذلك فى تونس واليمن مؤخرا خاصة وأنهما معنا فى دائرة ما أطلق عليه دول «الربيع العربى». q q q وإن المتابع لخطوات الترشح وافتتاح اللجنة المختصة لباب سحب الأوراق المطلوبة منذ أيام قليلة وحتى كتابة هذه السطور فقد قارب العدد «الربعمائة» مرشح وقد يتضاعف إذا ما استمرت هذه التصرفات غير المسئولة والتى تصل إلى درجة «التهريج» فى موطن جاد لا يقبل سوى التوقير والاحترام حيال منصب رئيس الجمهورية لما لمصر من مكانة مرموقة وبُعد حضارى يضعها فى مصاف الدول الرائدة صاحبة التاريخ الإنسانى الذى نهل منه العالم وتولدت من خلاله ما قامت لديه من حضارات. ومن المظاهر المرفوضة أن الإعلام المصرى قد وقف موقفا سلبيا تجاه ما يحدث حتى أن بعض الإعلاميين خاصة على القنوات الفضائية وبرامج «التوك شو» قد اتخذوا من ذلك مادة إعلامية تشير بما نعتبره شائنا وتثنى على ما يجب مؤاخذته.. ومن ذلك تقدم أحدهم للترشح مرتديا ملابس بسيطة وفى قدميه «شبشب» وقد لا يعيبه ذلك ولكن حتى لا نقع فى محظور السخرية من عباد الله كان يجب أن نضع ضوابط صارمة تحول دون ذلك ومنها تقرير رسوم لسحب الأوراق لا تقل عن عشرة آلاف جنيه تضمن الجدية فيمن يتقدم لهذا المنصب المهم بل الأهم على مستوى الدولة بكاملها وكنت أتخيل ألا تطبع اللجنة المختصة هذا العدد الكبير من الاستمارات بما يجعلنا نضع كثيرا من علامات الاستفهام وأكثر من علامات التعجب. وقد قال بعض الخبثاء فى هذا السياق إن اللجنة تشجع هذه العبثية ومنهم من افترض سوء النية لإفساد هذه التجربة الفريدة فى تاريخنا المصرى المعاصر منذ قيام ثورة يوليو سنة 1952.. q q q .. ومن المثير للدهشة والعجب معاً أن هذا الكم الكبير إذا ما أتيح له الترشح بصرف النظر عن التقييم الموضوعى للشخصيات التى تتصدى للدخول فى هذه المعركة الانتخابية الفارقة فإن النصاب القانونى الذى يجب أن يحصل عليه المرشح المقدر له الفوز يبدو مستحيلا فى هذه الظروف الملتبسة خاصة أن كثرة العدد سوف تسفر عن «تفتيت الأصوات» بما يجعل من الإعادة فرضا حتميا لتدخل مرة أخرى فى حظيرة التحزب البغيض وما يمكن أن يحدث مما لا يحمد عقباه من أحداث نحن فى غنى عنها وكفانا ما يزدحم به الشارع المصرى من أحداث عنف وبلطجة.. .. وحتى لا نستبق الأحداث ولكننا فى نفس الوقت نستقرئ معطياتها الظاهرة فى الأفق السياسى بما يجعلنا نؤكد أننا جميعا بحاجة إلى ضوابط لا تتعارض مع حق الجميع فى مباشرة حقوقه السياسية ولكن ذلك شريطة ألا نطلق الحبل على الغارب لنصل إلى هذا الهراء الذى نشاهده هذه الأيام وحتى نقى أنفسنا من عواقب وخيمة تهدد التجربة الفريدة وتحول دون إتمامها بالشكل الذى نتمناه لمصر ولأنفسنا.